"نجاة العرب" / لمؤلفه معاوية ولد سيدي أحمد الطايع (الحلقة الثانية 2 )

جمعة, 21/04/2017 - 01:11

خالد الشيخ  ماذا يحدث للعرب في هذه الأزمنة بعد الحرب على العراق والفوضى التي خلفتها، والحرب على لبنان وغزة، والحرب الأهلية في الصومال وفي السودان، وتمرد الحوثيين في اليمن والإرهاب الذي يضرب كل بلد، فالسودان مثلا انقسم إلى دولتين، ألا يعتبر ذلك كله فشلا ذريعا للأنظمة العربية وعجزا تاما عن تدبير أمور الأمة؟ ماذا يمكن للشعوب أن تفعل في هذه الحال؟ 
عمر: ما أعلمه هو أن القادة العرب الموجودين الآن في السلطة يتمتعون مثل نظرائهم في العالم بمستوى ثقافي رفيع. فمعظم المسؤولين الكبار في مصر وتونس ولبنان والكويت والأردن وغيرهم من المسؤولين في البلدان العربية تخرجوا من جامعات مشهورة في الغرب مثل زملائهم في الدول الغربية، وهم أنفسهم نتاج الثقافة العربية التي كانت سائدة في القرن الثالث عشر الميلادي، كان العرب أهل العلم والمعرفة وكانت بغداد التي ترزخ اليوم تحت ضربات الإرهاب أكبر مدينة في العالم وكان يتوافد إليها وإلى قرطبة عاصمة الغرب آنذاك، العلماء في جميع ميادين المعرفة كما كان يتوافد إليهما التجار وأهل الحرف، وكان يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود في سلام وأمان وتسامح. وكانت اللغة العربية تعيش عصرا ذهبيا بصفتها اللغة التي تكتب بها كافة الأبحاث في شتى المجالات العلمية، وإنه من المعلوم لدى أصحاب الشأن من المؤرخين مدى انتشار اللغة العربية بين العلماء في ذلك الزمان. 
حسن: نحن نعلم أنك تحب أن يكون الناس متعلمين ومتحضرين وأنك في الماضي أطلقت في بلدك حملة واسعة لمكافحة الأمية والجهل. 
عمر: هذا صحيح ولكن تلك الحملة لم تسفر عن شيء؛ فبعد انطلاقها بسنوات قدُم إلي رجل اسمه محمد الحسن تابع دروس فصولها في مدينة النعمة في منطقة الحوض الشرقي، وأخذ يتكلم بالفصحى فقال لي: "سيدي أنا امتثلت لأوامرك وتعلمت التعبير والقراءة والكتابة ووصلت إلى مستوى متقدم في العربية لكني لم أجد أحدا لأتكلم معه بها. حاولت في البيت أن أخاطب بها أفراد أسرتي فسخروا مني وقالوا باللهجة الموريتانية الحسانية، (التي يقول العارفون بها من المثقفين العرب إنها أقرب اللهجات الإقليمية إلى العربية): محمد الحسن كف عن التكبر وتكلم بكلام مفهوم كجميع الناس. ثم حاولت أن أتكلم بلغتي مع الباعة في السوق ومع المارة في الشارع وفي كل مرة كنت موضع نظرات غريبة أزعجتني كثيرا فتوقفت عن التعبير بالعربية الفصحى حتى لقائنا هذا". 
خالد: يقول الشاعر العربي: 
ازرع جميلا ولو في غير موضوعه  **  فلن يضيع جميل زرع 
إن الجميل وإن طال الزمان به  **  فلن يحصده إلا الذي زرع 
حسن: هذا جميل لكن هل بقي للعرب جميل حقا عندما يقول بعضهم إن لسان العرب غير مفهوم؟ 
عمر: نعم إنما هناك الكثير من المفكرين الذين يفعلون عكس ذلك ويقرون بمكانة العلوم العربية الإسلامية وبالدور المميز الذي لعبته اللغة العربية في نهضة العلوم الحديثة. 
خالد: علمت أن للعرب اكتشافات علمية بالغة الأهمية وأنهم اكتشفوا القهوة التي تحب تناولها كثيرا يا صالح، وجعلوا منها شرابا عالميا. 
عمر: صحيح، يعلم المثقفون في كل بلد أن للعرب اكتشافات علمية عظيمة ذات تأثير فعلي وإيجابي على مجرى التاريخ ومسار الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى. أذكر منها على سبيل المثال الدورة الدموية التي اكتشفها ابن النفيس، وعلم التخدير الذي اكتشفه ابن سينا، والنظارة الطبية التي اخترعها ابن الهيثم، وكان أن وضع الجزري من خلال أعماله العلمية الأسس التي ارتكز عليها علم الميكانيك الحديث. وقد اخترع ابن يونس المصري رقاص الساعة. أضف إلى ذلك علم الجبر الذي ابتكره الخوارزمي، والقهوة التي اكتشفها العرب وجعلوا منها مشروبا عالميا كما ذكرت يا خالد. 
حسن: وكيف كان ذلك؟ 
خالد: حدث ذلك عندما كان عربي يرعى قطيعا من الماشية في منطقة بجنوب الحبشة وتبين له أن ماشيته تصير أكثر حيوية عند تناولها حبوبا تنبت على أغصان شجرة محددة. فأخذ منها وغلاها بعد مزجها بالماء كما نفعل اليوم وتذوقها فوجدها لذيذة الطعم فشرب منها ووجدها طيبة الرائحة فارتاح لاكتشافه وأخبر به الناس من حوله. 
عمر: أظن أن الصوفيين هم أول من جلب القهوة من إثيوبيا إلى جنوب الجزيرة العربية حيث يتناولونها في إقامة الليل، وفي أواخر القرن الخامس عشر وصلت القهوة إلى تركيا ومن ثم إلى إيطاليا ليبدأ استعمالها بالانتشار في أوروبا وبقاع أخرى من العالم. 
خالد: وما هي مشكلة العرب اليوم؟ 
عمر: من يتابع برامج القنوات الفضائية العربية يدرك أنها جميعا تبث باللهجات الإقليمية إلا في أوقات نشرة الأخبار. إن النقاش في مناظرات السياسيين والمثقفين ورجال الأعمال يدور بالعربية الفصحى وباللهجات الإقليمية. والذين يتكلمون الفصحى بينهم قليلون جدا. كما أن المسرحيات والأفلام السينمائية المعروضة على تلك القنوات تكون في الغالب بلهجة البلد الذي أنتجت فيه، ويكاد لا يفهمها بطبيعة الحال إلا سكان ذلك البلد. تلك مظاهرة واضحة تثبت تخلي العرب عن لغتهم وتشبثهم بلهجات محلية إقليمية. ولا يوجد شيء في الدنيا أخطر عليهم من تلك الحماقة. قد تأثرت كثيرا بما فعله أحد المشاركين أثناء مناظرة شاهدتها ذات يوم على إحدى القنوات الفضائية: رجل كان يتفنن طيلة النقاش في اللحن في كلامه ويخلط العربية بلهجته المحلية من دون أن يعترض عليه أحد من الحاضرين. 
غير أني شعرت من تصرفه أنه يريد أن يقول للمشاهد إن الفصحى والعامية سيان. لقد شعرت بأن ذلك التصرف يشبه تصرف من يسيء إلى أمه ليرضي الآخرين. 
  
  
العربية واللهجات الإقليمية (العامية) 
أمينة:أراك تشيد وتستفيض إشادة بالعربية في زمن سادت فيه الحضارة العربية، فما كانت مظاهرة تلك السيادة وكيف تجلت وماذا قدمت للإنسانية، حينما كانت العربية اللغة التي يتكلمها العرب؟ 
عمر: أذكر لكِ، على سبيل المثال لا الحصر، أن البحَّار الشهير المعروف بابن ماجد الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، كان يتقن العربية في وقت كانت الأمية سائدة في أوساط الملاحين، وكان ابن ماجد أشهر ملاحي البحار في زمانه، حتى أن البرتغاليين نصبوا له تمثالا يخلده تكريما له واعترافا منهم بفضله الكبير على أسفارهم البحرية. 
أمينة: هل يُفهم من كلامك أن ثمة تلازما بين الفكر واللغة، وأن التعمق في مجال فكري معين يتوقف على اللغة التي تتناول هذا الفكر؟ 
عمر: بالضبط هذا ما أعنيه. 
خالد: وهل تعني أيضا أن بروز العلماء العرب في عصور الحضارة الإسلامية كان مرده إلى تمسكهم باللغة العربية؟ 
عمر: كان تمسكهم بالعربية شرطا أساسيا، وإن لم يكن الشرط الوحيد، لامتلاكهم عوامل النجاح الأخرى التي جعلتهم يمسكون بناصية المعارف الفكرية. 
أمينة: تقصد بروزهم في مجال العلوم أم في ميدان الأدب؟ 
عمر: في مجالات الفكر كافة، فقد كان علماء العصر الإسلامي مجلين في جميع مناحي المعرفة. 
حسن: أعتقد أيضا أن اللغة المحكية أو المحلية ليست لغة علم وفكر، بل هي لغة تعبير سطحي. 
أمينة: يشترك سكان منطقة ما في لهجتهم المحلية بحكم التاريخ والجغرافيا، ويتفاوت مستوى فهم سكان المناطق الأخرى لهذه اللهجة حسب البعد الجغرافي والأحوال السياسية، حتى أن بعض المفردات والكلمات الجميلة بلهجة بلد ما، تحمل أقبح المعاني وأسوأها بلهجة بلد عربي آخر. 
خالد: هل كان لنا أن نسمع ببعض الشعراء المعاصرين لو لم يكتبوا شعرهم باللغة العربية الفصحى؟ وهل كان لنا أن نفهم أشعارهم التي غناها بعض المغنيين لو غنوها بلهجاتهم الإقليمية؟ وهل كان لنا أن نفهم الأعمال الأدبية والعلمية المترجمة إلى العربية لو تمت ترجمتها بلهجات محلية؟ 
حسن: على أية حال، اللغة دائما قابلة للتطور فيضاف إليها أو تسقط منها كلمات وعبارات، حتى اللغة الفصحى كانت أيضا عبارة عن لهجات ولولا أن الإسلام حفظها لكانت مندثرة منذ زمن. واليوم لا يساعد على تعلم الفصحى سوى القراءة، وخاصة قراءة القرآن، لكن المشكلة عندنا هي أن أحدا لا يقرأ حرفا واحد فكيف بصفحة أو كتاب. 
أمينة لكن معظم ألفاظ اللهجات المحلية ومفرداتها وعباراتها يمكن ردها إلى أصل عربي فصيح. 
عمر: نعم كما يمكن رد بعض ألفظها إلى لغات أخرى فهذه اللهجات المحلية والإقليمية ليست لغات تمتلك منطقا وقواعد متماسكة من شأنها أن تبني هيكلية فكر في أذهان المتكلمين بها، فهم يكتفون بتصريف أعمال يومية وأغراض عادية ولا يستخدمونها كلغة علم وتفكير، والمطلوب رد هذه اللهجات كلها واسترداد لغتنا العربية الصحيحة والمنطقية والعلمية لكي يتسنى لنا فهم العالم الحديث من خلال هيكليات العربي الفصحى القابلة لاستيعاب المفاهيم الحديثة بشيء من العبقرية التي كانت لأهل العربية فيما مضى. 
أمينة: إنك شديد الحماسة للغة العربية الفصحى، وهذه خصلة رائعة يتحلى بها المتعلمون والمثقفون العرب، لكنك من جهة أخرى، تغالي في هجومك على اللهجات العربية المحلية مع أن اللهجات العربية المختلفة هي في طبيعة الشعب العربي مثلما هي في طبيعة كل الشعوب الأخرى...يتواصل.