لدولة مالي حدود مع بلادنا تمتد على قرابة 2000 كلمتر لا يوجد بها حاجز طبيعي: لا جبال لا أنهر ولا غابات ..بما يجعل كل مقاربة امنية لضبطها لا تصطدم بهذا المدى الاستراتيجي الواسع بقدر ما تصطدم بالتداخل القوي في المناطق المأهولة - على قلتها - بين مجموعات عُرِفت تاريخياً بترابط سلسلة أصحابها القرابية وأحيانا عمود نسبهم الواحد وتشابكهم على ارض الواقع بشكل يفقد كل قيمة للأساليب التقليدية في إدارة الحدود.
فكل معالجة قائمة على العسكرة ومهاجمة المعابر غير الشرعية التي تستغلها المجتمعات المحلية للحصول على البضائع الرخيصة وفرص التنمية الاقتصادية المنخفضة التكلفة والمعاش السهل، لن تكون معالجة ذات جدوى في ظل الهشاشة والفقر وغياب الحدود الدنيا من فرص التنمية الحقيقية على الحدود .
في العقدين الاخيرين لم يعد التهريب وقضايا الحدود المعقدة مطروحة بعد ان دخلت الى اراضينا واراضي الجارة الشرقية كل التشكيلات الدموية المسلحة وشرعت في عملياتها الاجرامية بدءا من جماعة الدعوة والقتال الخارجة من رحم ازمة الجزائر الداخلية وصولا لتنظيمات القاعدة وداعش واستغلال الجميع لمحنة الازواديين المتراكمة ومناخ الاضطرابات المتنامي في منطقة القرن الأفريقي وغرب القارة من شمال مالي حتى الموزمبيق، و أوصلت الآن تفاعلاتها الدراماتيكية الى تغييرات جوهرية في أطماع القوى الدولية التقليدية بعد بروز روسيا واشتداد رغبتها في الحصول على مكاسب من ثروات المنطقة وموقعها الاستراتيجي.
هنا لم تعد حدودنا مع الاخوة الماليين حدود طبيعية بل ساحة صراع بين المجموعات المسلحة من جهة وبين القوى العظمى من جهة أخرى واستجابت على نحو مفزع (لنداءات الفراغ ) التي حذر منها المفكر الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل قبل سنوات مستحضرا طريقة الغازي كبّولاني في تهيئة موريتانيا وجعلها في "المنظور" الفرنسي من أزواد واعتبار ذلك دليلا يعود عمره لأكثر من قرن على أن أيَّ سياسة تتعلق بمصير موريتانيا لا يمكنها أن تتجاهل أزواد.
وازواد الان هو دولة مالي المثخنة بالأزمات ومن الغباء مواصلة صم الآذان عن ما يجري بها من قتل من أجل القتل وقتل من أجل النهب وتكرار الحالة المأساوية التي وجدنا فيها أنفسنا أكثر من مرة، و استيقاظنا المتكرر مذعورين في مواجهة آفاق مسدودة، وعجزنا الدائم عن الاستشراف الذي يقي من مكر المفاجآت المزعجة في ظرف سياسي واقتصادي دولي تسوده نزعة ظلم وتفكيك ونهب قارة نحن خاصرتها الكبرى ومركز منطقتها الثمينة كما حددها الاستاذ رحمه الله بأفقه الاستراتيجي الثاقب حين أكد بأن (الأرض دائما ثمينة عندما تكون خالية أو قليلة السكان).
فكيف نفسر مجزرة لمغيطي التي استشهد فيها 17 جندياً يوم 2005/06/04 !! وما تلاها من مجازر؟؟ وكيف نفسر الآن مجزرة ترتكب في حق مواطنين عزل من طرف جيش تصدح نخب بلاد هؤلاء العزل ومنابرها السياسية بشكل شبه اجماعي على ضرورة الوقوف مع قادته ورفض قرارات (الاكواس) الداعية في مراميها البعيدة لدعم الديمقراطية ومحاربة حكم الفرد الذي يمثل انقلابهم العسكري قمته .
يجب ان نغير رؤيتنا وتعاملنا مع حدودنا الشرقية وفق رؤية تراعي التغيرات الكبيرة التي تدفع المنطقة الى مزيد من التدخلات وتدفع بدول عديدة منها الى الفشل والتفكك .
فلا بد من تحقيق دقيق لمعرفة الجهة التي تقف وراء هذه المجزرة المرتكبة في حق مواطنينا الابرياء من طرف جيش دولة جارة، ولابد ان نعرف دوافعها الفعلية ومن الواقف الفعلي خلفها عملا بالمسلمة المعروفة ( بإن دولة لا تتحمل مسؤولية الدفاع الوطني لم تعد دولة) والحذر في الوقت نفسه من كل قفزة في المجهول داخل ساحة ملتهبة لا ندري ما يهيؤ لها من طرف دوائر النهب الدولية التي يتاكد للمرة الالف عمق شهوة أصحابها للدفع بكل منطقة في العالم نحو الاقتتال والدماء والخراب والموت الجماعي متى لاح لهم بريق طمع في ثروتها ونهب خيراتها ووضع الايدي علو موقعها .
رحم الله شهداءنا وجنب بلادنا ما يهيئ السيؤون للمنطقة من خيارات لا ينبغي لعاقل ان يحسن الظن بها .