شاء القدر أن يكون يوم فاتح أغسطس، يوما مفصليا في حياتي منذ 40 سنة، بحلوله كل سنة، أستذكر قصصي الطويلة والمتشعبة مع هذا اليوم والتي لا يضاهيها الاّ قصص الموريتانيين جميعا مع ثالثه وسادسه والتي يبدو أنهم سيعانون منها كثيرا، كما حدث لي انا مع فاتح أغسطس.
فقد بدأت قصتي مع الفاتح من أغسطس 1976، قبل 40 سنة، يوم ولوجي عالم الصحافة بالتحاقي بالوكالة الموريتانية للصحافة بعد سنة واحدة من إنشائها، كطابع لنشرتها، بعد نجاحي في امتحان شاركت فيه ونجحت الوحيد من بين المشاركين، دون أية وساطة.
وخلال 36 سنة من ذلك اليوم واكبت جميع مراحل تطور الوكالة، بما في ذالك تغير أسمائها ومقراتها وتقلب أمزجة 20 مديرا عاما، تعاقبوا عليها منذ التحاقي بها، كما تطورت أنا فيها من طابع الي مخبر صحفي، مشهود له بأنه من بين أكثر زملائه نشاطا وحضورا في قلب الحدث، حيث واكبت عن قرب، جميع مراحل تطور الدولة الموريتانية بأدق تفاصيلها، ما بين فاتح أغسطس 1976 إلي فاتح أغسطس 2014، بما في ذلك حرب الصحراء، التي عملت مراسلا للوكالة في فترة أوجها في شمال موريتانيا، حيث كانت تدور أهم وقائع هذه الحرب.
كما واكبت بالتغطية الميدانية جميع حلقات مسلسل الانقلابات في موريتانيا، الناجحة والفاشلة (وما تولد عنها من أنماط للحكامة)، الذي بدأت حلقته الأولى، منذ 38 سنة، صبيحة يوم الاثنين العاشر من يوليو 1978، تاريخ انقلاب العسكر علي حكم الرئيس المختار ولد داداه، لتتواصل هذه الحلاقات بلا نهاية، علي التوالي في 6 ابريل 1979 و3 يونيو 1979 و4 يناير 1980 و16 مارس 1981 و 12 دجمبر 1984 و 8 يونيو 2003 و3 أغسطس 2005، و6 اغسطس 2008، إضافة الي 6 محاولات أعلنت الأنظمة الحاكمة أنها أحبطتها قبل تنفيها وهي علي التوالي بتواريخ: 1983و 1986 و 1987 و1990 و2000 و2004 وسجن من اتهموا بها وقتل البعض منهم وقد حضرت محاكمات بعضهم ولحظة النطق بالأحكام عليهم بما فيها أحكام الإعدام.
ومن فاتح أغسطس 1976 إلى فاتح أغسطس 2014، عايشت عن قرب، زوال أنظمة ولحظات ولادة أخرى ولحظات موت مؤسسات الحزب الواحد (حزب الشعب) ووقائع نشأة جميع المؤسسات السياسية والتشريعية التي تولد وتموت مع كل نظام عرفته موريتانيا منذ بدأ مسلسل الانقلابات فيها، الذي لم تلح حتى الآن في الأفق نهاية له، مع الأسف..
وقد كانت نهاية قصتي الأولى مع الفاتح أغسطس، التي استمرت 38 سنة (تم فصلي تعسفيا من العمل مع حرماني من جميع حقوقي في سنتها السادسة والثلاثين)، في فاتح أغسطس 2014، باعتزالي العمل الصحفي بصورة نهائية، لأسباب بينتها في ذلك التاريخ، لتبدأ قصتي الثانية مع فاتح أغسطس والتي أطفئ اليوم، الفاتح أغسطس 2016 شمعتها الثانية وهي مناسبة أنتهزها لعرض أهم أحداث هذه الفترة..
تنقسم هذه الأحداث إلى شقين، لكل منهما، حلوه (وما أقله) ومره (وما أكثره)، أحدهما يتعلق بي شخصيا والثاني يتعلق بموريتانيا، التي أنا أحد مواطنيها العاديين، ينسحب علي ما يجري فيها.
وسأبدأ بالشق المتعلق بي شخصيا وبشقه الذي حلاوته أحلى من العسل ومن أبرز أحداثه، ميلاد حفيدتي الثانية، شيماء ونجاح جميع أبنائي في دراساتهم وأعمالهم وحياتهم الاجتماعية وهي منن من الله علي، لا أستحقها عليه، أحمده وأشكره عليها.
ومن الأحداث الحلوة التي عشتها ما بين الفاتح أغسطس 2016 والفاتح أغسطس 2014، تاريخ قراري اعتزالي للصحافة، أنني لم أحتج لحظة لأحد في أي أمر من أمور الدنيا، رغم فصلي التعسفي من العمل وحرماني من جميع حقوقي منذ 23 مايو 2012 واعتزالي العمل، حيث كانت هذه الفترة هي أحلى فترة عشتها في حياتي، فيها ذقت لذة القرب من أسرتي وفيها نمت ملء جفوني، قرير العين، مطمئن البال، مرتاح الضمير والجسد وفيها لبست بالحلال أحسن الثياب وأكلت أحسن المأكولات وفيها تعالجت في أرقي المستشفيات في الخارج، رغم أن قرار الفصل من العمل، حرمني من كل عون من الدولة الموريتانية.
ومن أفراح وأتراح هذه الفترة،تأكيد المحكمة العليا لحكم محكمة الاستئناف القاضي بعدم شرعية فصلي من عملي والحكم علي الوكالة بتعويضي حوالي 15 مليون اوقية وهو الحكم المؤكد لحكم محكمة الشغل ورأي مفتش الشغل.
ويرجع الفضل في ذلك كله، الي فضل الله عزَّ وجلَّ ولطفه بعباده، الله: "الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ".
ومن نعم الله عليّ، التي لا تحصى، أن رزقني زوجة صالحة وأبناء بررة، يتنافسون في توفير جميع أنواع السعادة لي، فكانوا نعم الجليس والأنيس، فعندما اقترح علي الطبيب العلاج في الخارج وفروا لي ذلك في تونس لمدة شهرين، كانت وسائل الراحة والسياحة فيها إلى جانب العلاج متوفرة، رفقة هذه الزوجة الصالحة، التي أصرت على مرافقتي، صحبة إحدى بناتنا.
وعندما نصحنى الطبيب بالخروج أحيانا من جو نواكشوط المتلوث، وفروا لي مكانا للراحة خارجه.
أما الشق المر من هذه الفترة، فمرارته مرتبطة بالشق الثاني من أحداثها المتعلقة بموريتانيا عموما وهو الشق الذي لا حلاوة فيه، مطلقا، بل كله مرارة طعمها أمرّ من الحنظل، أتذوقها، مع جميع الموريتانيين، كل يوم من أيام هذه الفترة وتؤرق علي حلاوة حياتي الخاصة.
ففي هذه الفترة تدهورت حياة الناس علي جميع الأصعدة، مما جعل الجميع ينظر نظرة تشاؤمية لمستقبل موريتانيا كدولة لها مقومات البقاء، ففي هذه الفترة زادت اسعار جميع مستهلكات المواطنين بنسبة تراوحت ما بين 43% إلي 208% ، رغم انخفاض أسعار المواد النفطية والغذائية عالميا بنسبة زادت أحيانا علي 200% (نفط مثلا) وفيها تفاقمت البطالة حيث سجلت موريتانيا علي مؤشر التشغيل الدولي في ذيل دول العالم بتجاوز البطالة فيها 32% وسجت في ذيل قائمة دول العالم ة الأكثرا فقرا وانعدام الرفاهية لمواطنيها وعلى مؤشر الفساد وسوء الحكامة، مما جعل موريتانيا تشهد هجرة غير مسبوقة في صفوف شبابها بمن فيهم أصحاب الكفاءات العالية إلى الخارج، بحثا عن العمل، مفضلين المغامرة بحياتهم على البقاء في وطنهم، الذي فقدوا فيه كل أمل.
وفي هذه الفترة تدهور الأمن وانتشرت جميع أنواع الجريمة المنظمة، من قتل واغتصاب ونهب بشكل لم تعرفه موريتانيا من قبل وظهرت مليشيات تهدد الناس في حياتهم وممتلكاتهم بشكل علني، نهارا جهارا.
وفي هذه الفترة بلغت نسبة النجاح في شهادة البكلوريا، خلال السنة التعليم (كما سميت) 7% وحرم مئات الطلاب في الخارج من منحهم وحرم منها الآلاف في الداخل وفيها تقرر بيع أهم المدارس وأقدمها في نواكشوط وتحويلها إلى أسواق في عملية فساد كبيرة، لم يستفيد منها إلا من استفادوا من ساحة ابلوڴات وساحة مقر الموسيقى العسكرية ومدرسة الشرطة والملعب الاولمبي ورباط البحر والأحياء التجارية والصناعية في نواكشوط الشمالية والمساحات المحاذية لطريق نواذيبو وتلك المحيطة بمطار نواكشوط الدولي وأراضي المطار القديم.
وفي هذه الفترة أعيد انتخاب ولد عبد العزيز لمأمورية ثانية في انتخابات قاطعتها المعارضة وجرت في أقل الظروف شفافية، وأنفقت علي رحلاته خارج البلاد وداخلها، عشرات المليارات من المال العام...
وفي هذه الفترة، كثر الحديث عن تغيير الدستور وبدأت علامات التحضير لذلك لتمكين ولد عبد العزيز من مأمورية ثالثة، التي ربما يلقب فيها بـ"الرئيس مدى الحياة"، كما لقب في الاولى، "رئيس الفقراء" وازدادوا فقرا وفي الثانية "الرئيس الإنسان" وفيها تصاعدت وتيرة النفاق والتزلف وعدم الاهتمام بالشأن العام وانسداد الأفق أمام أي ضوء في آخر النفق يبشر بإنقاذ البلاد من الهاوية التي تسير نحوها بسرعة.
وفي هذه الفترة، ظهر زيف شعار "مكافحة الفساد"، حيث بلغ الفساد ذروته وعرف منه ما لم يخطر ببال احد فيما مضي، فصار المال العام يقسم بصفقات التراضي علي المقربين في مشاريع وهمية، لا يتعدى انجازها الإعلان عنها وصرف المليارات باسمها وصار سيف الضرائب سلاحا مسلطا علي الرقاب، فتوقف الاستثمار الأجنبي وهاجر رأس لمال الوطني.
وفي هذه الفترة لم يتجاوز الحوار بين المعارضة والنظام، مستوى التنابز بالألقاب وتبادل الاتهامات وفيها نامت المعارضة ولم تصحوا بعد من نومها.
وفي هذه الفترة ضيق علي الحريات العامة من خلال سجن الناشطين الشباب والحقوقيين والاعتقالات العشوائية وقمع الاحتجاجات السلمية وفيها غلّب النظام، السخافة البلطجية على الصحافة المهنية الجادة.
ومن المرّ في هذه الفترة (وما أكثر مرّها): رفض السلطات التنفيذية، تنفيذ الحكم الصادر لصالحي من جميع مراحل التقاضي بعدم شرعية فصلي التعسفي من عملي والحكم علي الوكالة الموريتانية للأنباء بتعويضي، وهو ما يرفضه النظام، رغم نهائية الأحكام وصدور قرار من محكمة الاستئناف بالتنفيذ (صورة التنفيذ مرفقة).
كانت هذه هي أهم أحداث ما بين فاتح أغسطس 2014 وفاتح أغسطس 2016، الذكري الثانية لقرار اعتزالي الصحافة.
استودعكم الله، إلى الذكرى الثالثة فاتح أغسطس 2017 ، رجيا من الله أن نعيشها في سعادة وأحتفل بها معكم وأحوال موريتانيا كلها حلوة كالعسل لا مرارة فيها ولا ظالم ولا مظلوم.
وما ذلك علي الله بعزيز..!!
ماموني مختار صحفي موريتاني
الهاتف:
0022222407140
0022246407140
viber 0022246407140
skype: zein.alabidine.mamouny
facebook.com: