تكثر الكتابات هذه الأيام تزامنا مع الذكرى الثالثة لتولي فخامة رئيس الجمهورية مقاليد الحكم في البلاد ويكثر في هذه الكتابات التصريح والتلميح على جنبات الضفتين؛ تأييدا ومناصرة أو استنكارا ومعارضة، وقلما ينجو أحد الفريقين من الغلو..
فالمادحون المؤيدون يزيدون مدحا وإطراء وذكرا مفخما لما أنجز؛ بل وذكرا لما لم ينجز بعد، والتفاخر به وإن كان الرئيس نفسه صرح ويصرح دائما بعكس ذلك كاشفا الخلل غير المقبول أو التأخر غير المبرر؛
والعائبون المنكرون كذلك يبالغون في الجحود والنكران على الرجل حتى لا تكاد تسمع عندهم ذكرا لإنجاز واحد ملموس طيلة هذه السنوات الثلاث!!..
ومن المتفق عليه أو يكاد أن هذا النظام تسلم السلطة في ظرف استثنائي وصعب، خزينة خاوية، تنافر سياسي بالغ منتهاه، فساد مستشر من القمة إلى القاعدة، والدم المستباح هو المال العام بكل استمراء؛ بل هو معيار الفتوة واليد التي تعبث به هي التي يقبلها الجميع! أي خلل هذا وأي خطر يتهدد مستقبلنا جميعا من هكذا تصرفات؟! وزاد ذلك تأثيرا سلبيا على الحياة العامة ما ولدته جائجة كوفيد من أضرار على العالم بأسره..
اتفقت المعارضة والموالاة بعد ذلك على أن جو التهدئة السياسية الذي زرعه الرئيس في نفوس الفرقاء السياسيين كان حدثا بكرا ومكسبا يجب أن يغتنم؛ الشيء الذي لم يحدث وتبين ذلك مع مرور الوقت، خاصة عندما ظهر الشد والجذب بين ممثلي الساسة المتداعين إلى الحوار وزادت اتساع الشرخ السياسي بعد التهدئة العامة تلك البيانات التي ما فتئت تصدر عن هذا الحزب أو تلك الجماعة مظهرة عدم الرضا أو كاشفة بعض المآخذ..
لقد كان الاهتمام بالتعليم في ما مضى من مأمورية الرئيس جليا من خلال زيادة الإنفاق على التعليم ومن خلال التعهد بإصلاحه اعترافا بحجم الخلل ومكاشفة ومصارحة؛ وإن كان كثير من المتتبعين ما زال يعتبر المنجز ضئيل لحد الساعة مع اعترافه بوصول ذروة التشخيص والتخطيط... لكن المتفق عليه في هذا المجال أن اكتتابات كبيرة حدثت وأخرى موعودة، وأن بناء المدارس وترميمها كثر فيه النشاط، ينضاف إلى ذلك اعتماد قانون توجيهي للتعليم هو بمثابة المساطر التنظيمية التي تضبط القطاع وتحصنه مستقبلا من التخبط الذي قتل الجهود وبدد المقدرات منذ استقلال البلاد إلى اليوم، يذكر أيضا أن النظام المعلوماتي الذي أصبح يسير به القطاع يشكل إضافة هامة وأحد أعمدة الرهان على نجاح المنظومة مستقبلا؛ فلا معنى لتقدم أو نجاح دون ضبط وتنظيم، وعلى مستوى الأجور والعلاوات فقد حصلت زيادات في العلاوات وهي محل إشادة وتثمين؛ لكن على مستوى الأجور مازال الانتظار هو عنوان المشهد؛ وطبعا يشكل مطلب زيادة الأجور مطلبا إجماعيا، ترفعه النقابات لكنها لا تختلف في مطلبه عن أي فرد مشتغل بالتعليم؛ ومن المعروف أن الحاجة المتجددة وارتفاع الأسعار وكل ظروف الحياة الطارئة تفرض التنبيه على هذه النقطة بالذات.
لا ينكر الناظر الموضوعي ما حصل على مستوى البرامج الاجتماعية حيث قدمت أموال كثيرة ووزعت إعانات عدة على طيف كبير من المحتاجين والمتعففين، لكن السؤال المطروح هل بالإمكان أحسن مما كان؟ أو بعبارة أخرى هل كان لنا أن نصل إلى الهدف المنشود بالتوزيع مرحليا ثم يكون ندى العملية مستمرا استنادا إلى مصادر إنتاج دائمة؛ تضمن تغطية الأعطية وتشغل من خلالها مجموعات قادرة على العطاء ويستمر الاستثمار بنفس المبالغ؟..
أعتقد أنه مازال بالإمكان إنشاء مشاريع خاصة بهذه الأموال ويوجه ريعها بشكل مستمر للمستفيدين من هذه التوزيعات، ومن الطبيعي أن تزداد المبالغ مع نجاح المشاريع فذلك أضمن للاستمرار من التغطية اعتمادا على نفقات الدولة المحصلة جباية، وطبعا كلما زادت نسبة النجاح وارتفعت المبالغ كلما زادت القدرة على التغطية واتسعت دائرة الإعانة؛ ولنا في المشاريع الخيرية الاستثمارية الأجنبية خير مثال ولنضرب مثالا واحدا وليكن في دائرة الدول العربية الشقيقة (الراجحي مثلا) وطبعا قد لا يكون هو الأنجح؛ لكنه يصلح لضرب المثال استئناسا..
لنتأمل كيف تحول هذا الرجل من مواطن عادي بأفكار بسيطة إلى أحد المنفقين الكبار ليس على فقراء بلده فحسب بل تعدى نداه إلى فقراء المسلمين في بلاد الله الواسعة؛ مع استمرار مصادر الإنفاق والتوزيع التي اعتمدت بالأساس على الزراعة وتغذية الصناعة من تلك الزراعة ..نخيل زيتون .. إلخ
عندما نقف عند الأعطيات التي تقدم للمحتاجين عندنا وما يصاحبها من تحويلات -رغم اهميتها- نجد أن أكبر من استفاد منها هو وكالات تحويل الأموال وما يعاضدها من أمبراطوريات مالية قائمة؛ ولو أن نسبة العائد الخدمي على هذه الوكالات وزع على المدرسين مثلا أو على عمال الصحة لتحسن الحال قليلا، ولاختفت الإضرابات وحصل شيء من الرضى ولو بعد حين؛ هذه الملاحظة القديمة تنضاف إليها أخرى جديدة تتجسد في تذمر بعض المستفيدين السابقين الذين حذفوا لاحقا لأسباب يجهلونها، بل يقول البعض منهم أن انتقاء غير بريئ حصل وبموجبه أصبح يستفيد الأقل حاجة ويحرم الأكثر حاجة، ويربط بعضهم ذلك بتدخل أو مشورة من البلديات التي قطعا لن تكون بريئة من الميول السياسي والمكافأة على أساسه أو الحرمان كذلك بموجبه.
كل الإنجازات الحاصلة رغم أهميتها مازالت محل تشكيك عند البعض لارتباطه ذهنيا بالأثر المجسم أكثر من صداه المعنوي؛ وطبعا كما قيل على لسان ممثلين للحكومة فإن الحاصل معيش أكثر منه مشاهد؛ لكن السؤال الذي يولده ذلك هو أين قناعة المواطن البسيط غير المؤدلج بما حصل؟
ويمكن القول أن المواطن البسيط المجرد من العاطفة السياسية التي تؤيد تبعية؛ أو تعارض حمية له مرآة عاكسة هي التي من خلالها يهتدي إلى بوصلة الأمور، وهذه المرآة منصوبة في قعر مرجله؛ إذا سمع أزيزه كل يوم وظل قادرا على مواصلة سماعه فالأمور بخير، أما إذا تغير الحال واضطر إلى نصبه في النهار وعجز عن إيقاد النار في الليل فالأمر ليس بخير، طبعا تكون الحالة طبيعية إذا كانت بتدبير عادي بعيدا عن الارتهان للبنوك أو الإذعان للديون؛ ومعروف أن ارتفاع الأسعار يلعب دور محرك الأمواج إلى الرضا مع الانخفاض وإلى التذمر والسخط مع الارتفاع مهما كانت الأسباب داخلية أو خارجية؛ فإن المواطن البسيط ينطلق بفطرته من هذه الجزئية وبتمكنه منها يرضى ولا تشغله جملة الكليات الأخرى، وبعدم رضاه فيها يظهر السخط فيما سواها.
طبعا لا يمكن أن نمر دون ذكر بعض النقاط المضيئة في المجال الاجتماعي؛ التأمين الصحي لستمائة ألف مواطن محتاج مع تحمل الاعباء الطبية لبعض الفئات الأخرى مثلا؛ وطبعا مازال بالإمكان أكثر؛ خاصة إذا ضيق الخناق على الفساد والمفسدين وضرب بيد من حديد على المختلسين والمبددين للمال العام وما أكثرهم!!... وهنا لا بد من التنبيه على أن مبدأ من أين لك هذا يحضر معه الإنصاف ويغيب بغيابه سيف العدل القاطع ويفقد الوطن رصيدا كبيرا كان بالإمكان أن يسد به خلة المحتاج ويرعى مشاريع النهضة الحقيقية؛ إذا لا مناص من إرجاع المبالغ المنهوبة كي نوقف سيل الفساد والاختلاس الذي ما إن يختفي في قطاع حتى يظهر بقوة تدفق عاتية في قطاع آخر... المسألة وجودية إما أن تكون للمساءلة والإثبات تبعات وتأثيرات أو لا نكون جميعا سوى سراب أو رماد عصفت به ريح في شتات.