يسعى الغرب بكل الوسائل ليُثبِت أنه باقٍ ولا يَسير باتجاه الانهيار. يَتمسك بكل ما بقي لديه من عناصر قوة ليقول للعالم إنه الأفضل والأقوى والأكثر جذبا. يُضخِّم إلى حد كبير ما يُسمِّيه تطلع الآخرين لِنموذجه، لِنمطه في الحياة، للحرية التي يقدِّم، للحياة الرغدة التي مازال يُمنّي بها مَنْ كان سببا في أن يُصبحوا فقراء ومحرومين… وفي المقابل يُقلِّل من درجة الخلافات القائمة بين مُكوِّناته، يُحاول أن يبدو وحدة متماسكة متعاونة فيما بينها، لا خلاف بين عناصرها، يُخفِي أزماته الداخلية بدعاية واسعة تحاول إبراز عكس ذلك تماما.
ونستقبل نحن هذه الصورة بطريقة أو بأخرى. أحيانا، لا نمحّصها ولا نقارن بينها وبين غيرها، والأخطر من ذلك ننسى مَن نكون ونحن نفعل ذلك.. لولا أن برزت لنا، في الآونة الأخيرة، صورة دولة نووية هي روسيا، تمكنت أخيرا من الوقوف نِدَّا لهذا الغرب، بقوته العسكرية والمادية وبكافة الوسائل التي يملك، والأكثر من ذلك هاجمته، وجعلته يلبس لأول مرة ثوب الضحية المُعتَدَى عليه، المُتمسِّك بالشرعية الدولية، المُتباكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مصيره، غير القادر على حسم معركته في الميدان كما كان يفعل، أو على مستوى أروقة مجلس الأمن كما كان يريد. وذلك تحوُّلٌ غير مسبوق في تاريخنا المعاصر.
لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يكون الغرب الليبرالي في مثل هذه الوضعية، يُصوِّرها بطريقة كاريكاتورية لا مثيل لها مشروع قرار الولايات المتحدة وحلفائها الزاعم إدانة ضم روسيا لأقاليم كانت تابعة لأوكرانيا، إنه مشروع قرار، يلخّص مدى الاضطراب السائد لدى الحلفاء الثلاثة (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا): أرادوا من صاحب حق الفيتو أن يكون ضد نفسه ويقبل طواعية إدانتها أي أن تدين روسيا نفسها.. فإذا بهم يفاجَأون بأن أكثر من نصف البشرية ليست معهم، بعد امتناع كل من الصين والهند عن التصويت.
ويتجلى المشهد الدولي الجديد أمامنا بشكل غير مسبوق في تاريخنا المعاصر. لأول مرة لا نكون وقودَ حرب بين الكبار، ولا نقوم بحرب بالوكالة لصالح هذا الطرف أو ذاك، ولا تكون أراضينا مسرحا لهذا النوع من الصراع.
ولأول مرة أيضا منذ عقود من الزمن نشهد كيف يتمكن طرفٌ ثالث من إذلال مُستعمِرِنا بالأمس، ويجعله غير قادر على فرض مطالبه بالقوة، أو بالمناورة، للحصول على مزيد من الطاقة من المنتجين الأساسيين لها، بل يتودد بأدب مزعوم وبدون عجرفة لعله يحصل على ما يريد.
وهذا تحولٌ كبير في الموقف، له تداعياته السياسية التي لا شك فيها.
لم نعد ابتداء من 24 فيفري 2022، أمام دول غربية لا رادع لها، تفعل ما تريد في كافة أنحاء العالم باسم العولمة ونشر القيم الديمقراطية ولو بالقوة، بل أصبحنا في عالم هناك من يقول فيه “لا” لذلك، ولو بالقوة، ويفرض على الغرب ما يريد دون أن يتمكن من مَنعه، رغم استخدام كافة الوسائل العسكرية والاقتصادية والإعلامية.
إنه عالم ما بعد حرب أوكرانيا، الذي بدأ يتشكَّل، وهو في صالحنا، وفيه مساحة أمل واسعة لنا، لنكن قادرين على إيجاد مكان، ومكانة، لنا فيه.