في معجم العلاقات الدولية هناك ما يسمى بالموضع، وهناك الموقع، ولكل واحد منهما محددات جغرافية وسياسية، فبالنسبة للموضع أو الموقع الجغرافي فهو المكان الذي توجد فيه الدولة ضمن حدود طبيعية ثابتة، ويحظى في العادة بالأولوية في العلاقات الدولية، وهذا الموضع هو الذي يربطنا بحدودنا الحالية بعدة دول تجمعنا بها، إضافة إلى ذلك علاقات اجتماعية مرتبطة باللغة والثقافة والتاريخ المشترك بالنسبة لبعضها، والتواصل والعلاقات الاقتصادية والتجارية مع البعض الآخر.. هذه الروابط والعلاقات في حيويتها تتأثر بما يعرف بالموقع أي بالتغيرات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والاديولوجية عبر العالم.
وهكذا ظلت علاقتنا السياسية والديبلوماسية في مد وجزر مع بعض هذه الدول مثل المغرب والسينغال، لكن السمة البارزة أن هذه التغيرات التي تمليها مسألة الموقع لم تؤثر على علاقتنا بالجزائر ومالي على مر تاريخنا الحديث.
وعلى نحو راسخ ظلت علاقتنا بالجزائر قوية وتراعي مفهوم الموضع الذي هو الجوار الدائم بخصائصه الأخوية… الجزائر حافظت على نفس المفهوم مع دول الجوار فقد أرسل القذافي أسرته للجزائر من بين 184 دولة تربطه بها علاقات وعلق بالقول أنه يعرفهم منذ 40سنة ولم يحصل منهم على أي مشكلة وأنهم بنخوتهم العربية لن يسلموهم لأي كان، وكان ما كان.
بعد قرن من الاستعمار تريد الجزائر أن تكون دولة مستقلة وتحدد نمط علاقتها لمصلحتها أو لشرفها ولا تريد أن تكون لعبة في يد أحد.
وهكذا لم تقبل الإملاء من فرنسا ولم ترض بالدخول في دول الساحل تحت الملاءة الفرنسية لأن الأمر يتعلق بالمصالح الحيوية للجزائر ولا تريد الدخول فيه عبر مقاربة أجنبية تخدم أجندتهم بالدرجة الأولى ومع ذلك طورت الجزائر التنسيق الأمني مع موريتانيا.
لقد ظلت علاقتها بالشعب الموريتاني قوية ومهمة في أحلك الظروف متجاوزة حساب المردودية أو المصالح الجزائرية، فقد كان الهدف من تلك المواقف هو مساندة موريتانيا فقط ولم تكن لها علاقة بحساب النتائج ولا بمسالة الموقع التي تزداد فيها أهمية الدولة بالنسبة للدول المجاورة وللعالم من حيث أهميتها في المعادلة السياسية او الاقتصادية… كانت الجزائر وهي التي استقلت بعدنا بأربع سنوات الأخ الشقيق الذي ساعدنا في عمليات التحول الكبرى التي مرت بها الدولة مثل قضية تأميم ميفرما والخروج من منطقة الإفرنك الإفريقي وقضية المحروقات وكذلك أمام الصدمات التي تعرضت لها الدولة ،مثل قضية السينغال والتهديدات الأمنية… فإذا كانت موريتانيا اليوم في موقف قوي بالنسبة للأمن فللتنسيق مع الجزائر دور رئيسي في ذلك… العلاقات الجزائرية فوق أحداث المنطقة وفوق جهود التأجيج المدفوعة الثمن وهي علاقة شعبية لكنها علاقة بين مراكز الدولة العميقة وتعي أهدافها المرتبطة بالأمن والاستقرار والمحبة والاحترام، فالجزائر دولة شقيقة محبة لموريتانيا على مر التاريخ.
إن الدول التي تقاوم الانخراط في الامبراطورية العالمية وتتبع نهجا تنمويا مستقلا تتعرض للتدمير إما عسكريا أو إعلاميا، حيث تعتبر وسائل الإعلام السلاح الأكثر فاعلية ونشاطا تحت سيطرة المراكز العالمية وخدمها، وتندرج جهود التأجيج في التشويش على موقف الجزائر الصريح من الحرب الروسية الأوكرانية التي يأخذ فيها الغرب موقفا صريحا معاديا لروسيا في شكل إجماع غربي لا يريدون أن يشقه أحد.
وهكذا فإن المنظور للعلاقة الحميمية بالجزائر يحمل تعدي للعلاقة بروسيا والواقع أن علاقتنا بروسيا مبنية على أسس سليمة على مبادئ الاحترام والاستفادة المتبادلة والتعاون المشترك.
وروسيا دولة تكنولوجية عظيمة .روسيا والجزائر وتركيا والصين وجنوب إفريقيا وسوريا وفينزويلا والارجنتين تريد أن تخرج من المغارة الغربية "النظام الدولي" الذي يأخذ من القانون الدولي غطاء وعصى تطبق على الضعفاء ولمصلحة الدول الغربية.. هذه الدول تريد أن تخرج رأسها من ربقة النظام الدولي الملطخ بالدماء والنهب و بالتدمير والكيل بمكيالين… روسيا تعترف بسيادة الدول الافريقية ولا تؤمن بمنطق "الحوزة الغربية لإفريقيا".
إن هذا هو الجزء الثاني للمشكلة مع روسيا أمام الجزء الأعمق الذي هو التحريض على الدولار "واسويفيت" ونظام الأمم المتحدة الجائر… مصلحة موريتانيا الحقيقة في أن تنضم لهذا الركب، فالعلاقة مع الغرب لم تعط إلا مزيدا من القيود على التقدم ودعم التبعية حتى عندما يريدون أن نكون شرطيهم الحدودي يريدون أن يكون ذلك على حساب ميزانيتنا لأننا مستعمرتهم الدائمة ولأن لهم نصيب دائم من خيراتنا، وهذا هو نمط الدولار وتسيير العمليات التجارية الدولية.
ومع ذلك فقد كسبت موريتانيا ثقة دولية بسبب النجاح في المقاربة الأمنية حيث حافظت على علاقات متوازنة مع أطراف عدة خارج قبضة الغرب وبسياسية الانفتاح على الجميع وقدمت دورا ملهما في طي الكتمان ونكران الذات، ومع ذلك فهي دولة تتطلع للمستقبل بشكل هادئ وتملك كل الوسائل والشروط لذل ، وبعيدا عن التجاذبات الجيوبولوتيكية فإننا لا نراه مناسبا بل نرفع كل عبارة الادانة والامتعاض ضد أي جهد يسعى للتأثير سلبا على سمعة الجزائر وعلى علاقتنا الأخوية بها ونعتبر أن ذلك ضربة في مقتل لمسار حافل بالإخوة خاصة إذًا كان ياخذ من موريتانيا قاعدة لإطلاق الدعاية ضد الجزائر.
الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار