محمد المختار ولد محمد فال - كاتب صحفي
في ظل عالم تنخره الأزمات، وتتداعى في أرجائه صروح العولمة وتضعف فيه قدرة الغرب على تحريك عجلة الإقتصاد العالمي وتترنح فيه القبضة الأحادية على مقدرات الشعوب، ويقف العالم على أبواب حرب عالمية ثالثة يؤكد الخبراء أنها وشيكة وحتمية، وقد تندلع في أي لحظة.. نجد موريتانيا تغط في سباتها العميق، مستسلمة لأحلام يقظتها، التي تمني فيها النفس بخلع ثوب التخلف والخصاصة، من خلال ترسيخ الغبن وتحكم الفاسدين في مفاصل الدولة الإقتصادية والسياسية وحتى الإجتماعية، وزرع النعرات العرقية والفئوية والقبلية والجهوية، من خلال التعيين والحظوة، مستسلمة بالجملة لواقع يريح ساستها ويقصي غالبيتها، دون تخطيط للمستقبل، أو تدقيق في مسار يؤدي حتما إلى نفق مظلم، وينتهي إلى طريق مسدود.
رحلة سيزيفية، تكرر خلالها جوقة المتزلفين نفس أسطوانة المديح الكاذب لكل من يجلس على الكرسي، وتجاهر بنقيضها، بمجرد إزاحته بالقوة أو الإكراه، دون خجل من تلك “الطبقة السياسية”.. في ظل استسلام مريح لقادة كل مرحلة.. الشيء الذي نجده اليوم يتكرر أمام أعيننا بجلاء ووضوح.
فالرئيس السابق- رغم وضوح مسلكياته وجرأته على الفعل يمينا ويسارا ومجاهرته- وهو لا زال في السلطة- بثروته الطائلة، التي جمعها بعد توليه للسلطة.. إلا أن جوقة التزلف أوما أصبح معروفا لدى الجميع بمناضلي “حزب الحاكم”، ظلوا يضعون ولد عبد العزيز في مرتبة، قد لا ينجوا صاحبها من لوثة الردة وصريح الإسفاف في القول والفعل.. واليوم نجد نفس الجوقة السياسية والقبلية والإعلامية، تصفه بأبشع النعوب، التي يثق الجميع بأنها نعوت وسهام ستوجه أيضا لخلفه ولاحقيه في المنصب.
من هنا تبرز صعوبة الوصول إلى حقيقة مشهد يتداخل فيه الذاتي مع الموضوعي، يشكوا فيه المتهم ظلم الفاسدين ويفاخر بأنه أنصعهم سيرة وأكثر منهم نزاهة واستقامة- رغم تجاهله لجوهر “من أين لك هذا”.
بعد المحاكمة إلى أين نحن سائرون ؟
يبدوا أن القبضة الحريرية التي رافقت رحلة الملف داخل ردهات القضاء، وما نتج عنها من اعتقاد خاطئ بأن المحاكمة مستحيلة، هي من أوقع المتهم الرئيسي في مصيدة، بعد جولته الخارجية الصدامية.. فقد تقرر أن تبدأ محاكمة ولد عبد العزيز قي الخامس والعشرين من الشهر الجاري.. محاكمة، قد تصدر عنها أحكام قاسية، مصحوبة بظروف اعتقال غير مذلة، وقد تقتصر على تقليم أظافره فقط وقطع الطريق أمام طموحاته السياسية، المدفوعة بشهية الوصول للسلطة وتكرار تجاربه الماضية، التي كرسته زعيما أوحدا للبلاد، منذ الثالث من أغسطس2005، وحتى أواخر 2019.
وبما أن ولد عبد العزيز قد صعد إلى السلطة بواسطة الدبابة، فإنه- ولربما لنفس السبب- لم يهتم كثيرا ببناء قاعدة شعبية قوية تسند طموحاته السياسية، فاكتفى بالشعارات، المصحوبة بنزر من الإنجازات، ذات الطابع الإستراتيجي ، المسنودة بأخرى معتمدة على الكم بدل الكيف.. أرجعها منتقدوه إلى الطفرة، الناتجة عن الارتفاع الصاروخي المتزامن لسعر الصادرات السمكية والمعدنية.. في حين يستدل بها مؤيدوه على صفرية النظام الحالي وعجزه عن تحقيق أي إنجاز حتى ولو كان شكليا.
محاكمة، تشعبت أبعادها وأثارت جدلا حول الماضي والحاضر وصارت مؤشرا لاستشراف آفاق المستقبل، دفعت بالجميع إلى محاكمة الكل، بفعل الواقع المقلق لحاضر البلاد، غير المسنود بتحولات ذات ثقل حقيقي في الماضي، وانعدام مؤشر مطمئن على وجود ضوء في نهاية النفق، الشيء الذي حول البلاد إلى حلبة للصراعات المسنودة بمظاهر ما قبل الدولة، بفعل الإستغلال الساذج من طرف الأنظمة المتعاقبة لجميع الأبعاد العرقية والقبلية والجهوية، لسرعة مردودها ولضآلة كلفتها السياسية والمطلبية، دون الإلتفات إلى مخاطرها على بنية الدولة وارتداداتها المستقبلية.
ولعل أهم تداعيات هذه المحاكمة: أنها طرحت السؤال الكبير المضمر في وجدان كل موريتاني : “إلى أين نحن سائرون”؟
ألا يوجد بديل عن استنساخ تجارب الماضي الفاشلة المعتمدة على معطيات اللحظة والحصاد السريع؟
أليس في هذه البلاد رجالا، يقفزون فوق المصالح الضيقة- التي هي مصدر كل الداء والموجهة للتجارب الفاشلة المقلقة- ويبتكرون نهجا مغايرا لجميع تجاربنا السابقة، المبنية على مظاهر ما قبل الدولة والمصالح الضيقة وعبادة الفرد وتمجيد الحاكم، ما دام على الكرسي ونعته بأقذر النعوت، لحظة مغادرته للمنصب وفقدانه لأدوات الفعل والتأثير؟
كيف نرسخ قيما مغايرة لما هو سائد، والذي حطم صورة الشنقيطي المصلح الأمين، الذي يرجع إليه في العلم ويشار إليه في المحافل الثقافية الإسلامية بالبنان؟ كيف نسترجع شخصيتنا، التي تضمن ألقنا؟ وهل من المنطقي أن نبقى واقفين عند نقطة الصفر، ننتظر “غودو” ونعيش تجربة سيزيفية مقلقة في الحاضر ومدمرة للمستقبل؟
إذا كان البعض يرى أنه لا تقدم إلا باستلهام تجارب الماضي، فإننا في هذه البلاد لا نملك الجرأة ولا المقدرة على استعادة التجربة المرابطية ولا نرغب قطعا في تكرار تجارب السيبة ونرفض بقوة الإحتماء بإرث المستعمر، وليس من مصلحتنا أيضا البقاء ضمن معادلة تكاد تكون صفرية، تستأثر قلة منا فيها بريع البلاد المادي والمعنوي، وتلغي بالغالبية في أتون الفقر والتخلف والتهميش.
فأي أفق ستفتحه محاكمة ولد عبد العزيز؟ هل ستتحول إلى محاكمة فعلية للمفسدين جميعا، أم أنها ستكون مقصورة على قلة من مقربيه، تبعده مؤقتا عن التأثير في المشهد السياسي وتعطي للنظام فسحة يلتقط فيها أنفاسه بعد سنوات من ما أصبح معروفا لدى البعض ب”فوبيا ولد عبد العزيز”؟
فسحة تمكنه من التفرغ للانتخابات المقبلة، غير مضمونة النتائج بعد، والتي سيخوضها النظام بنخبة مستهلكة وفاقدة للصلاحية، لا تمتلك الحافزية التقليدية، ولا هي قادرة على الوقوف بمفردها.. وهذا ما سيضع النظام الحالي أمام استحقاقات غير مضمونة النتائج حتى الآن على الأقل.. رغم تكليفه للجنة مدجنة وإشراف رجله المخلص والمثابر، لكنه أيضا المكبل بكوابح وضعها مناوئوه بعناية وإتقان، الشيء الذي سيجعله غير محمي الظهر ويقاتل في كل الجبهات وبسلاح صدئ مستهلك ألف مرة ومتخلف عن روح العصر.
ففشل النظام- أو عدم رغبته أصلا- في تعيين رجال هم من اختياره، حوله إلى رهينة لواقع لم يرسم ملامحه ولم يشابك خيوطه.. رجاله غير مضموني الولاء.. فأصبح في وضع حوله إلى خادم لأصحاب المصالح أكثر مما هو مستفيد من أدائهم ومن عناصر تأثيرهم.. كما شكل تباطؤه في حسم ملف العشرية، مادة للنقاش على عموم التراب الوطني، جعل من هذه القضية موضوعا لمحاكمة النظام نفسه والتساؤل عن حقيقة نواياه اتجاه الفساد وسدنته، الشيء الذي أفقده عنصر التأثير الفعال وجرد الملف من أبعاده الإصلاحية، فنظر كثيرون إلي مساره البطيء والناعم، بوصفه مؤشرا على الرغبة في ترويض ولد عبد العزيز أكثر مما هو ملف يسير وفقا لإرادة شعبية، جسدتها الغرفة التشريعية.. في سابقة قد لا تتكرر ضمن الشروط والظروف القريبة.
ملف العشرية.. من يتهم من؟
الولادة السيامية للنظام الحالي مع نظام ولد عبد العزيز، وتصريح ناطقه الرسمي منذ البداية بأنه مجرد تجسيد له، هما اللذان أوجدا ضبابية وعدم فهم لمجريات الأحداث اللاحقة بشكل منطقي- رغم أزمة المرجعية، التي ظهرت فجأة ودون سابق إنذار وما أثارته من لغط وشائعات.. ذلك أن رجال المرحلتين هم هم والخطاب السياسي لم يتغير فيه سوى تحويل “التضامن” إلى “تآزر” واستبدال الخطاب المتشنج بأخر يهدف إلى التهدئة السياسية والمجتمعية، التي قد تصبح مجرد وقفة لالتقاط الأنفاس، ما لم تسندها خطوات جادة، تنفع الناس وتمكث في الأرض.
واقع دفع بالبعض إلى التساؤل: هل كان ولد عبد العزيز وحده الفاسد المفسد؟ وهل كانت بطانته السابقة، التي لا زالت تتصدر المشهد، مجرد شهود زور، فضلوا مصالحهم الشخصية على المصالح العليا لبلدهم؟ أم أنهم كانوا جماعة من “المغفلين النزهاء”، استطاع الرئيس السابق التعمية عليهم، دون أن يفقهوا شيئا مما دار ويدور في بلدهم- رغم مراكزهم المتقدمة في جهاز الدولة؟
بم نفسر إطراءهم للنظام السابق بنفس عبارات الإطراء الحالية- ولربما أشد؟ فهل لا زالوا هم كما كانوا، مجرد مجموعة متزلفة، تضلل الناس وتتستر على فظائع الفساد والإفساد؟
خيارات شجعت الرئيس السابق على أن يرفع البطاقة الحمراء في وجه الجميع، موجها لمتهميه نفس التهم، ومهددا لهم بكشف المستور بالصوت والصورة، الشيء الذي فسر به البعض هذا التراخي والبطء الشديد في معالجة ملف، قد تتطاير شظاياه على الجميع، وقد يضع كثيرين في دائرة الإتهام.. كل ذلك وفر مناخا لولد عبد العزيز من الطمأنينة، جعله يعود من رحلته الخارجية، ظانا أنه لن يحاكم، وأن الملف منتهي الصلاحية السياسية وبالتالي سيغلق إلى الأبد، لأن ذلك وحده هو ما سيوفر ضمانة مريحة لأصحاب القرار في النظام الحالي بأن لا ينشر غسيلهم على الملأ، ضمن صفقة غير مكتوبة، الكل فيها رابح وعائد إلى عرينه مسرورا.
معادلة، قد لا تعطي نفس النتيجة التي توخاها الشعب وجسدها تحقيق البرلمان، وقد تفضي إلى أحكام قاسية ضد رأس العشرية وجزء من شلته.. لذا سيبقى الترقب سيد الموقف وقد تكون هذه المحاكمة بداية النهاية لمحاربة الفساد والضرب بيد من حديد على شلل الفساد والمفسدين، الذين نخروا تنمية البلد ودمروا مستقبله بحجة الدفاع عن مصالحه العليا، والذين يرون في الإصلاح مفسدة وضربا للإستقرار ومكيدة ستعصف بالبلد وتدفعه نحو المجهول.