خلال جنازة المرحوم الصوفي، شوهدت شخصيات تختزل مواصفات عميقة للمجتمع، بعيدة كل البعد من ركوب الموجات: إنها ترمز للمجتمع العميق، ويمثل حضورها معاني أخرى غير المسألة الحقوقية وحدها . لم يكن المرحوم الصوفي معروفا إلى يوم وفاته لرجال مثل بابه ولد سيدي ومَالُوكِيفْ ولد الحسن وسيدي ولد أحمد دّيه ومحمد ولد انويگظ (أغنى رجل أعمال) من أعماق المجتمع، وجماعة من الأئمة والعلماء الخّمَل، وكهل يملك وراقة على قارعة الطريق يمشي على ثلاث، والمصطفى ولد مولود: وزير سابق يعتزل للسياسية ، وكان محمد فال ولد بلاّل الذي رافق نشأة الدولة بفاعلية قد كتب أنه لم يشاهد جنازة بهذا الحجم، واللائحة طويلة وطويلة ..علّق "أحدهم": نظرت وأنا في طريقي إلى المسجد حيث أُغلقت الطرقات التي تُوصل إليه من مسافة بعيدة ،و ذكرني دبيب الناس من كل الاتجاهات للمسجد وكأن شيئا قويا يدعوها إلى هذه الجنازة ، ذكرني بأجواء رمضان في المدينة المنورة. لا توجد بالتأكيد لدى كل هؤلاء حوافز نفعية لكي يقطعوا مسافة كبيرة مشيا على الأقدام للمشاركة في جنازة شاب من لحراطين غير معروف لديهم .لا يحدث هذا بصفة اعتيادية ، لهذا يجب التفكير في ما وراء ذلك .إنه تعبير صادق عن تبني قضايا المصير المشترك والانشغال بها .
عندما أراد هذا الحجم الحضور لم يكن يمثل المعارضة ولا الموالاة، ولم يكن تجسيدا لأي خط سياسي ولا يمثل سوى مفاهيم بارزة جديدة وتغير في نمط التعاطي مع القضايا الاجتماعية والحقوقية ومع مستقبل البلد . فما هي ياترى دواعي ذلك في هذا الوقت بالذات ؟!
،رغم أن أكثرية الحضور مكتملة الوعي أو لديها الوعي الأساسي بقضايا البلد، فإن هناك شيء طارئ هو كيف التأم هذا الكم وبدرجة الحماس نفسها ؟ وهل هناك شيء في السياسية يمكن أن يمثل ذلك بكل قوة الجذب هذه ؟وهل يمكن أن يتم التعبير عن ذلك غدا في الاستحقاقات إذا ما ظهرت أفكار بشكل النصاعة نفسها !
وهل يمكن ان يكون غزواني مرشحا يضم هذه التطلعات بالاضافة إلى مزاياه الشخصية الأخرى .
يصعب على نحو دقيق الجواب مباشرة على جوهر التساؤلات، لكن بالمقابل يمكن مجاراته في سياق المضمون، فهناك تغير في الخطاب السياسي نفسه من حيث أهمية الخطاب الاجتماعي خاصة خطاب اللحمة وسطوته على الخطاب السياسي المحض أو ذلك الذي يقوم على مرتكزات اقتصادية.
ويعد ذلك تعبيرا عميقا عن تغيير الاهتمام من السياسية إلى المجتمع ومن جوهر الدوافع والانشغالات في المزايا والمآثر الشخصية إلى الهم العام وإلى خطر دعاية التفرقة والمتاجرة السياسية بمستقبل البلد ، ثم الوعي بالحقوق. لقد أعطى ذلك مُجتمعا متصلا بنفاذية منصات التواصل الاجتماعي ومجال إهتمامها وحريتها على قلوب وعقول كل الناس. إن كل القوة الوطنية بدأت تولي اهتماما بالغا بمستقبل البلد وتصنف القضايا الخطيرة على سلم اهتماماتها وأولوياتها، وهكذا تبلورت حالة انسجام جديدة للوعي تدور حول قضية المصير وقضية اللحمة كأساس للمستقبل ..لقد تم القضاء على خلق وسائل وآليات الحشد القديمة وحلت محلها وسائل الحشد الجماهيري الجديدة السريعة والواسعة الانتشار في البلد ..إننا أمام نمط جديد من أداة الفعل السياسية من قدرة الاندفاع خارج طرق ووسائل الشحن القديمة يمكن أن يخلق انسجاما للقوة الحية دون سابق تفاهم.
يبدو أن الوضع السياسي تغير كثيرا على نحو لم يكن ضمن المنظور القريب، فلم تعد النخبة مسجونة بين خيار الموالاة والمعارضة ،.لقد أصبح هناك شيء آخر أقوى من كل ذلك يقال له الضمير، أخذ قسطا من الصحوة من الحياة خلال الأحداث في الفترة الأخيرة، ولم يعد يقبل المبيت في الأسر في الأطر القديمة ولا الاعراض صفحا عن القضايا المصيرية ، لأن أدوات الفعل السياسية والاعلامية ومفرداتها ومخرجاتها تغيرت وأصبحت هي الذات الفعلية للعملية السياسية وبامكانها أن تفرض شروطها وأن تفرض نفسها حتى مرشحها وأن تضع كل شيء على الميزان .
إن المعطيات والقوة السياسية تغيرت كثيرا .
إن أي رئيس أو زعيم سياسي يريد أن يكتب له الاستمرار لابد أن يتواءم مع هذه التحولات .
فهل يملك غزواني القدرة على قيادة المرحلة القادمة بخصائصها تلك؟..
تنقص غزواني قوة الأداء الوظيفي المرتبط بالمؤسسات وبجهاز الدولة، ورغم أنه من المحافظين أو من صلب المجتمع التقليدي المخملي لكنه ليس من صناعته ولا من تجلياته، فذهنه يقدح بالمساواة، لكنه يعيش حالة سجن بين مرحلتين وبين قوتين، فهو أمام وضع صارت فيه الدولة متأخرة جدا عن سقف المطالب والوعي الحقوقي وتجلس بجانبه في قمرة القيادة القوة التي تصنع ادوات ومقتضيات ذلك التأخير .إن الخروج من تلك الوضعية يتطلب مواءمة واقعية بين الحالتين وردم الهوة الواسعة التي يحرسها الحرس القديم. إن الأمر يتطلب مزيجا من القوة والسرعة والإرادة. إن كل الأمور معلقة على الإصلاحات الجوهرية ، وعلى قدر كبير من نفاذ الوقت الكافي لإجراء إصلاحات جوهرية. فالرئيس غزواني تعقد عليه أغلبيته الأمل في مواجهة تلك التحديات التي يلزمه تجاوزها من أجل التجديد له مرة ثانية، ليس من أجل الفوز فحسب، بل ليكسب نفس الشرعية السياسية التي تمكنه من إعادة تنظيم الدولة وفق التطورات والطموحات الجديدة التي استوعبت أغلب القوة السياسية حتى التقليدية منها وضمن شعارات التهدئة ومساراتها وبنفس درجة القبول والمصداقية والحفاظ على نفس خط القدرة على تبني القرارت الصعبة والحاسمة التي يحتاجها الوضع المستقبلي .
يتواصل
الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار