كان الحدث الفلسطيني أكبر من أي حدث رغم أنه يؤرخ لإنهزاميتة غير مبررة ويطحن مشاعرنا وينفي رجولتنا. إنه يعذبنا أشد العذاب؛ لا يوجد شقاء في الدنيا أكبر من ذلك : التفرج على البذخ في القتل والفتك والتدمير الذي يواجهه أهلنا في فلسطين …
كان رئيس الجمهورية من أوائل الذين أدانوا هذا الجنون الصهيوني، وقد كان -وهو يقوم بأضعف الإيمان- يخرج كلمات تشي بالحرقة والأسى، ومع ذلك ليس باليد حيلة، فهو رئيس لدولة يريد لها أصحابها أن تظل ضعيفة…
لم يشأ صحفيونا، وهم يجلسون قبالة الرئيس كأنهم وفد في نهاية مهمته في الدولة، أن يضمنوا أسئلتهم هذه القضية بمستوى الأهمية التي تستحق رغم استحواذها على العقل والقلب العربي والإسلامي والمشاعر الإنسانية، ومع ذلك كانت المقابلة أو الجلسة "العائلية" مع الرئيس محلية بشكلها وبأهدافها ورسائلها. وكانت هي الأولى من نوعها بالنسبة للرئيس غزواني، وكانت في نهاية المأمورية الأولى له. وعلى نحو ما، يعد التوقيت في جانبه السياسي هو الرسالة الأهم في هذه المقابلة. وبوصفه المصدر المؤهل، منح الرئيس لنفسه الفرصة لتقديم إنجازاته على نحو واضح وشفاف للغاية ومرتب وكأنه ينسج خيطا ناظما لكل تلك الانجازات ، بينما كان يعتقد البعض أنها مقابلة خضعت للنمط البروتوكولي، أو أنها استاتيكية جامدة حيث ينقصها الدخول في جدال مع الصحفيين أو عرض عضلاته الخطابية أو ممارسة حقه قي الردود على محتويات وحقائق مزيفة تم التلاعب بها وتداولها على نطاق واسع ضده حتى استهلكت جزءا من صورته البراقة الأولى دون أن يبدي أي اهتمام بتلك الدعاية الموجهة لشخصه، بل تغاضى عنها منذ البداية إلى اليوم في إيماءة للثقة بالنفس ،أو أنه جاء ليلوك مجموعة من الأرقام ظلت حديثا معادا -أو حينما نكون أقل لباقة - حديثا ممجوجا على لسان الكل .
جاء غزواني في دراعته حيث تملؤ كيانه بالراحة من أجل شيء آخر حسب تصميم المقابلة، وهو إعطاء معنى لهذه الانجازات ليؤكد أنها من صناعته ومن ترتيبه وتفكيره وبيد متمهلة دون أن يغير من موقعه دائما في الخلف . إنه -خلافا لكل رؤسائنا- مزهو بردم الذات وبتجنب كلمة "أنا" كمن يخشى أي صورة من صور الغطرسة ، كما ظل يتحلى بروح الفريق الذي يعرف الكل أن كثيرا من الأوجاع تتسلل إليه بسببه ، ياللتواضع !
ومع أنه كمن يعلن أن ساعة جردة الحساب قد أزفت، لم يتحدث عن الشق المظلم من الحساب: أي الصعوبات التي واجهته وضايقته وهو ينحت في الأوضاع المتحجرة لينفي عن نفسه طابع القوة ، وكأن هذه الانجازات تلقائية أو لم تتطلب جهودا استثنائية، فلم يتطرق للتركة القاسية اجتماعيا ولا اقتصاديا أوديبلوماسيا ، ولا للأزمة السياسية ذات الرأسين: لقد كانت في الحقيقة مثل الوحش، أزمة في الجسم السياسي للبلد وأزمة داخل النظام نفسه والأزمة الأمنية التي أخذت، هي الأخرى، منحيين داخليين خطيرين: منحى يتعلق بأمن الرئيس نفسه ، ومنحى يتعلق بتهييج الأوضاع الداخلية حيث عاشت العاصمة على أشهر رهيبة من الرعب المزروع ! كانت هذه المعضلات كتلة قوية ومتشابكة، وجاءت دفعة واحدة خلال الأشهر الأولى من استلامه بلدا منكوبا في العمق، يالسوء الطالع !،
كما لم يتحدث عن كورونا وعن مشاكل دول الساحل وحرب أوكرانيا، وكم كانت كلها قاسية التأثير على البلد، ولم يتحدث عن ضغط الديون على الاقتصاد وضعف القدرة على التحمل وانعدام الثقة المالية وضعف الكادر البشري والادارة……!
وظهر ولد الغزواني وكأنه لم يواجه أي مشكلة لتظل هذه الانجازات ناقصة حتى يصرف عن نفسه أية ذات فعلية للنبوغ، وليكشف بذلك عن مستواه الأخلاقي وعن نمطه في الحكم وعن طريقة تسييره للشأن العام. لقد وضع بصمته التي أصبحت واضحة للكل والتي تقوم على الاحترام بما في ذلك احترام الظروف القاسية. لم يحلو للناس كثيرا أنها لم تكن مقابلة حية ومباشرة، وبأن الأسئلة والأجوبة أعدت مسبقا هروبا مَن الاحراج كما روج لذلك البعض وحتى لو كان حقيقيا ، فإن ذلك النمط معروف في الاعلام مرتبط بمحاولة التحكم بالرسائل الاعلامية وبمجموعة من القواعد ومن الشروط، أهمها الجمهور المتلقي وطبيعة الرسائل وقيمتها وتقليل حجم الأخطاء، أي عندما يريد لها أصحابها أن تكون رصينة وشاملة. لقد كان يريد تحقيق هدفين: الأول الاستجابة للصحافة الوطنية التي تجاوزها مرات إلى الصحافة الأجنبية، والثاني أن يرسل مجموعة من الرسائل محكمة وتعبر عن اهداف معينة للرأي العام بواسطة مقابلة صحفية منزوعة الإثارة. إنه في الحقيقة خارج أي نزال سياسي اليوم أو أي حلبة منافسة وفي وضع يدين له بالتفوق . لقد بعث غزواني بملامح شخصيته كما يريد هو ، رافضا أي تصنع أو تكلف. وهذا هو السر الكبير للمقابلة. كل شيء طبيعي وكلاسيكي حتى في نمط المقابلة. إنه نمط قديم، لكنه ثابت القوة والتأثير، ففي سنة 1979 وافق الخميني للصحفية الفرنسية الشهيرة على مقابلة لم يكن يتقيد بأسئلتها خلالها بقدر ما استخدمها لنقل رسائل للغرب، فالشكل والطريقة تختلف بالنسبة لطبيعة ونوعية الرسائل والجمهور المتلقي .حافظ الرئيس على مسافة مسؤولة وقانونية من كل الأمور وكأنه يريد توكيد رؤيته عن مفهوم الدولة والمؤسسات والقانون ، وعن فصل السلطات وعن الصلاحيات وعن العمل في إطار الفريق، فلم يرد أن يخطف الأضواء وهو على أعتاب حملة رئاسية. هل هذا هو نمط التربية الروحية؟ إنها طريقة موغلة في التهذيب ! كما لم يكن كمن يسرق لقمة من وليمته ، بل يريد أن يشارك الجميع في نتائج هذا العمل وكان يطبخ كل شيء على نار هادئة .
لم يشأ غزواني أن يكون مرشح نفسه فقط، بل يريد تزكية الجمهور و أن يكون مرشحا للشعب أو لغالبيته، وقد يكون ذلك هو مرد الإعراض صفحا عن الجواب على سؤال حول ترشحه لمأمورية ثانية .
لم يعلق الرئيس على القضايا المعروضة على العدالة لكي لا يبدي أي موقف شخصي، و ليقدم صورة عما يجب أن يكون عليه رئيس جمهورية حين لا يكون غارقا في التفاصيل والخارجة عن صلاحيته ليس كما يحددها القانون لكن كما يمليها حب السيطرة والظهور والقبضة الثقيلة… إنها مقابلة تفتح الباب على منظومة أخلاقية وعلى "الخطوة- خطوة"، أي ترتيب الأولويات وبناء جسور الثقة مع الكل وتخليق الفعل الساسي وآليته ، والتحضير لنظام ديمقراطي قائم على أسس الدولة الوطنية فهل وصل الدرس في غياب أي اهتمام بها من طرف الاعلام العمومي وكأنها لا تحمل أي أفكار من ذلك النوع الذي يستحق النقاش والشرح .