كنا جميعنا ننتظر مبادرة لتوحيد صفوف المعارضة من أجل الدفع بالعملية السياسية نحو الفاعلية القصوى التي تجعل الرئيس يشعر بقوة الرهان السياسي ويعدل من بعض الاختلالات في السياسات الحكومية وفي الحزم باصطفاف قوة سياسية كبيرة ذات وزن وطني في الطرف الثاني ، ومن أجل توكيد وتنظيم التنازلات التي يمكن للمعارضة أن تجنيها من موقف الوحدة لمصلحة الديمقراطية ودعم فرص الاصلاح والمبادرات الإيجابية وخيارات السلم في البلد … كنا نتوقع عملية جرد الحساب داخل المعارضة من أجل تصحيح مسارات التمايز وتقويم الاعوجاجات التي ذهبت بها للتشرذم وإلى حافة الإفلاس . إننا أمام أعتى حالات الهدم والضعف التي قد مرت بها المعارضة . وبعيدا عن فكرة تلافي الوضع وفي الطرف الخطأ انفجرت قنبلة دخانية بسبب مقابلة قتالية للنائب بيرام على قدر هائل من عدم التناسب لم يتمكن من التحكم في تدفقها للرأي العام ولا في مستوى تفسيرها ، بل كان يقوض موضوعات مهمة من خلال إفراغ مشاركته في القضايا المعروضة على الرأي العام .لقد حول هذا التصريح الوضع إلى أزمة حقيقة طالت الثقة في المعارضة مجددا وجرّتها خارج الحلبة لبعض الوقت في حين أنها بحاجة لكل لكل ثانية من أجل دراسة الخيارات المتاحة وطريقة استغلالها في النزال المرتقب بعد أشهر من الآن والأهم من ذلك الانسجام في مجابهة اعوجاج اللجنة المستقلة .
كان على بيرام أن يجري مصالحة واقعية مع منزلته الوطنية والخارجية وطموحه العريض ، أوعلى الأقل أن يتوخي الحذر في التصريحات المثيرة للمشاعر وأن يتقيد بالمواقيت السياسية خاصة أن تصريحاته تؤخذ على محل الجد سياسيا وتوثقها الجهات الأجنبية .إن هذا النوع من التصريحات يحمل شحنة عالية من الإحراج بالنسبة لأي شخص عاد فبالأحرى سياسي كبير يقف على مشارف نهاية مشواره السياسي بعد سنين طويلة من الكد في مجتمع جامد لا يقدر الأفكار، وفي كنف أنظمة حكومية بولوسية دفع فيها ثمن نضال شريف ، كما أنها من جهة ثانية إراقة للغسيل في جوف مسرح صاخب ، وهكذا لا يعد هذا بأي وجه موقفا مناسبا ،اتجاه "رفيق" في الدرب .إن على بيرام أن يفهم أنه لم يعد مقبولا منه أطلاق الكلام على عواهنه فقد وضع بهذه التصريحات المعارضة والرأي العام خارج الرهانات الأساسية بالنسبة وتحديات المرحلة التي تستوجب التكاتف للتحضير للاستحقاقات القادمة على عدة مستويات وهكذا يكون أيضا الزعيم بيرام تجاوز هذه الأسابيع شؤون الساعة في البلد نحو أمور شخصية قلبت الساحة رأسا على عقب في الاتجاه الخطأ .
غير أن ذلك لايبرر وضع الحافر على الحافر في المسار الخطأ أيضا بالنسبة لمحمد ولد مولود عندما قام بمقاضاة زميله لكي يغسل نفسه من تهمة ليست في الحقيقة لاصقة وغير مشينة في وضع جرت به مجرى العادة ، فقد كان يكفي أنه سجل ردا يتضمن تفنيدا للأمر.ينضاف إلى ذلك أن كل البلد والأنظمة مطلعون على موقفه وجماعته من المصالح المادية بصفة عامة، فلم يكن ذلك على جدول أعمالهم طيلة نضالهم الممتد منذ 1966.
صحيح أنه اتهام خطير يجري مجرى التخوين من شخصية سياسية ووطنية مثيرة للجدل وفي وقت حرج، حيث يتزعم ولد مولود مع أحمد ولد داداه مبادرة الميثاق الوطني التي تتحدث عن تنازلات كبيرة لمصلحة الديمقراطية وتقويم الاختلالات عقب الانتخابات التي أدارتها اللجنة الوطنية للانتخابات بطريقة مشينة، تُظهر العجز الكبير وعدم الجاهزية وكأن كل التراكم قد تلاشى ،وانعدام الثقة في المستقبل حسب المشاركين،رغم مآخذ بيرام عليه أي مبادرة الميثاق التي يشرك في مبادرتها بادء الرأي .
وبصفة عامة لاتعد المساعدات التي يتلقاها السياسيون خاصة المترشحون من رجال الأعمال لدعمهم في تحقيق برامجهم الوطنية رشوة بل قد حددها القانون بنسبة 5% من غلاف الحملة أو السقف المحدد عند 500 مليون أوقية بالنسبة للانتخابات الرئاسية ، لكن هذا القانون لم يفعّل يوما من الأيام رغم أنه من الإصلاحات الأساسية التي أدخلت مع الأقفال على المأموريات وتجريم العبودية وغيرها خلال المرحلة الانتقالية .
وعلى نحو صارخ فقد صبت كل العملية في مصلحة النظام السياسية بأن قوضت المعارضة قوتها بأيديها في وجه تحد سياسي كبير .
أما بالنسبة للحصانة فإنها لا تعد صك غفران أو درعا واقيا من القانون إنها حماية للنائب وللقاضي وللوزراء وللرئيس وغيرهم من الموظفين السامين لكي يؤدوا مهامهم من دون ضغط فيما يتعلق بتعارض السلط أو هيمنة بعضها على بعض، وهكذا تظل الحصانة حماية منطقية وموضوعية وقانونية من أجل القيام بأعمال لمصلحة الشعب والدولة وليست نهائية ولا مفتوحة ولا حزام ناسف ..
صحيح أن النظام تابع الاجراءات بحق بيرام بسرعة كبيرة لكن ذلك أيضا مشروع في وجه النزال السياسي لقد وافته الفرصة داخل المعارضة فقفز عليها. إنها من مصلحته وهو على أعتاب عملية سياسية وانتخابية كبيرة يخدمه فيها تفكيك وتثبيط جهود وانسجام المعارضة حتى يتم كسب هذا الرهان .
إننا والحق يقال أمام وضع لا يهتدي فيه حتى النبهاء، لا يستند لمرجعيات وللضوابط يتقيد بها الناس وهكذا اختلطت فيه جميع الأوراق، كل شيء يدور حسب المزاج وكيفما اتفق وهذا ما يحتم عليّ العودة لسلسلة مقالتي المعنونة "بالمحاسبات الكبرى " لكي نتوصل إلى حصر وتحديد الخلل في بناء الدولة فكرا وعملا، وعقلية وتعامل المواطن معها، ودور النخبة كوسيط أخلاقي وفكري يسعى لتقويم الطرفين .
ورغم أنني بحاجة لفسحة كبيرة من الوقت والمعلومات والتخلص قدر الإمكان من ضغط حياة "أهل انواكشوط " فإني مضطر لمواصلتها مهما كانت الظروف لأن الوطن بحاجة لمثل هذه القراءة مهما كانت صغيرة ومتواضعة وناقصة . لكنها تظل نقطة داخل المربع الصالح أو الإيجابي الذي يجب أن نملأه بالاهتمام والبحث والتصحيح والنقاش . وعزائي في ذلك أو محفزي أنه يوجد من بين القراء من ينتظر بتلهف بقية تلك السلسة .
وهنا وعودا على بدء وختاما يجب تذكير الزعماء السياسيين المتشاكسين بأن الاستمرار في هذا الطريق يدمر فرص التفاهم والتنسيق داخل المعارضة التي هي في أمس الحاجة إليه لتحديد أهداف انتخابية محددة كي تصل إلى القوة التي من خلالها يمكنها أن تساهم بقوة في تحريك دفة قرار البلد وفق تصوراتها ومنهجها الإصلاحي.
من صفحة الاعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار