كانت العلاقات مع الاوربين سيئة منذ بدايتها ــ غالبا ــ وكانت مطبوعة بالنزاع والصراع ، وبدون شك كانت تتخللها بين الحين والآخر فترات هدوء ناتجة عن هلع الاوربين ، وولعهم بطعم الصمغ العربي وحرصهم علي جني الأرباح من تجارة أي شيء ، او ناتجة عن التنافس بينهم الذي كان يوفر هدنة أو راحة .
لايبدو، في الواقع ،ان أولئك الاوروبيين ينضوون تحت نفس اللافتة من حيث خشونة المعاملة. فمن بين الذين احتلوا ــ كل علي شاكلته ــ “أركين” ومرسي اجريدة أي “ابورتانديك” ــ وهو تحريف باللغة البرتغالية لميناء هدي امير اترارزة ــ كان الهولنديون والانجليز والألمان هم الأقل عنفا . اما البرتغاليون والفرنسيون فكانوا الأكثر وحشية وطغيانا .
إذا كانت الذاكرة الجمعية نسيت بتتابع القرون الكثير من تفاصيل تلك الفظاعات الماضية فإنها قد حافظت على العداوة والاحتراس اتجاه الأوربيين .
إن من أغرب المفارقات أن أول عبيد أسرهم الأوربيون على الشواطئ الإفريقية كانوا “بيظانا” خطفهم برتغاليي الأمير هنري الملاح بين رأس جيبي (الطرفاية) وأركين في النصف الأول من القرن الخامس عشر وقد زاد عدد الدفعة الأولى من المخطوفين البيظان علي مائتي شخص .
لم تكن أمريكا قد اكتشفت بعد وهكذا توجهوا بالأسري الى البرتغال نفسها ، حيث بادرت الكنيسة بالعمل علي “إنقاذ” أرواحهم من الكفر ــ ولكل قوم كفارهم ــ وفرض التوبة عليهم من ما كانوا عليه من الملة الإسلامية وذلك بإعتناق الكاثلوكية البابوية ، من تمادوا في رفض الإرتداد كان مصيرهم المحرقة . كانت أوربا آنذاك في غياهب القرون المظلمة تحت وطأة محاكم التفتيش وكان “تركمادا” نفسه منهمكا في تلك الأعمال البشعة في إرجاء شبه الجزية الأيبيرية التي أصبحت محبسة دير رهباني ضخم ، من قبلوا ، تحت التهديد بالمحرقة ، التحول عن دينهم صاروا عبيدا في مزارع وقصور كبار النبلاء وعظماء الأحبار والأساقفة .
عندما أكتشفت أمريكا وخاصة البرازيل صار العبيد أكثر أهمية وأوفر مردودية وصار الحصول عليهم أشد إلحاحا من أجل اعمار قارة تعتبر بلا أسياد . ويبدو أن أول عبيد أجتلبهم الأوربيون إلى أمريكا كانوا بيظانا ، اختطفهم البرتغاليون من الشواطئ ، وتم تصديرهم إلي البرازيل .كان هؤلاء الأوربيون يخطفون من البيظان سنويا مابين سبعمائة إلى ثمانمائة رأس .
لقد كان البدو عندما يرون سفينة ترسو علي الشاطئ يسرعون إليها للمقايضة المعروفة منذ زمن القرطاجيين الغابر فيسقطوا في فخ صيادي البشر الأوربيين ..وقد كان البرتغاليون على درجة من القوة مكنتهم من تسيير أسطول من أجل خطف العبيد البيض ، وكانوا يتوغلون في البرية سيرا علي الأقدام بحثا عن الأحياء البدوية لجرف الباقي من البدو رجالا ونساء ، ممن لم تستدرجهم التجارة .
كم دام هذا الإستنزاف الاستعبادي ؟ يصعب تحديد ذلك بالضبط .
لكن الأكيد أن الصمغ العربي هو الذي خلص البيظان من هذه المأساة لأنه فرض علي الأوربيين معاملة أخرى ، وعلاقات ثقة جديدة هي الضامن الوحيد لقطف وجمع وتجارة المادة الصمغية النفيسة .
والواقع أن الأوربيين لم يلبثوا أن اكتشفوا في العراء المفتوح منجما غنيا ولامتناهيا من العبيد يمتد من “أندر” الى “لوواندا” ، ونسوا البيظان القليلي العدد أصلا ، والمبعثرين بعيدا من الشاطئ في صحراء قاحلة .
هذا لم يمنع عمليات اختطاف ظلت تحدث الى وقت متأخر مثل عملية عام 1678م التي نفذها الفرنسيون حيث اسروا مئات البيظان في منطقة “أركين” وصدروهم عبيدا إلى أمريكا .
يقول العالم الفرنسي تويودور مونو : “عدد من هؤلاء الاشقياء رجالا ونساء رموا بأنفسهم في البحر خلال الرحلة المشؤومة وغرقوا بمحض إرادتهم مفضلين الموت علي العبودية” .
كانت باخرتان فرنسيتان قد أبحرتا من آركين حاملتين شحنتين من العبيد إحداهما توجهت مباشرة الى جزر “الآنتيل” وهي التي يذكرها تويودورمونو ، والأخرى مرت بجزيرة “كوري” سيئة الصيت في السنغال لإستكمال شحنتها من العبيد .
يذكر فرنسي من مارتينك اسمه “جوليني” في تقرير له الملابسات الفجائية لوصولها : “الباخرة الواردة من السنغال والتي تحمل عربا وزنوجا ضلت طريقها بالقرب من الجزيرة ، يعني مارتينك ــ منذ ثمانية أيام إلا أن الكارايب ــ يعني هنود الآنتيل ، انجدوها بإمتياز من غرقها إلي درجة أن جميع طاقمها والزنوج والعرب قد نجوا” .
بمناسبة هذا الاغتصاب وبعد أن اخضعوا الحامية الهولندية التي كانت ترابط في آركين قرر الفرنسيون هدم حصن آركين المنيع الذي بناه البرتغاليون في نهاية القرن الخامس عشر ، وتوالت علي سمائه بدون انقطاع عدة أعلام لدول قوية ، لأنهم لايريدون استغلاله ، بل ينظرون إليه كمرفإ منافس للسنغال، كما يتبين من المقتطف التالي من تقرير حول عملية الهدم هذه : ” دكه ــ أي الحصن ــ الفرنسيون بحيث ينهدم تماما ولاتمكن أقامته بعد …وبعد هذه العملية عادوا الى السنغال من اجل تجارتهم العادية ” .
استطراد حكايةالاستيلاء علي حوض آركين يحدد انه كان محميا “بمنشأة دفاعية قوية منيعة متعذرة الاجتياح وهي على رأس صخري يتمتع بأربعة مواقع محصنة وثلاثين قطعة مدفعية ومائة رجل مع أبواب ثنائية ( مضاعفة ) وكان ارتفاع الجدران خمسين قدما ـ القدم قريب من ثلث المتر ـ و سمكها خمسة عشر قدما ، وكان المتراس مرتفعا للغاية، وغليظا للغاية ، ويتمتع بكل اللوازم وفضلا عن ذلك كان يقوده رجل باسل اسمه كورنيل در لينكور” . لو كان هذا القصر الذي بناه البرتغاليون قرنين قبل ذلك ثم دعمه الهولنديون لو كان الفرنسيون تركوه شامخا لكان ، عند استقلالنا عام 1957 ، أعظم وأثمن منشأة تركها لنا الأوربيون . كان آركين في تلك القرون يتمتع بسمعة مقدسة في البرازيل . كان البروتستانت المنشقين على البابا قد مروا بآركين ،مرة ، وأحتلوا الحصن ، فوجدوا فيه تمثالا للقس أنطونيوس الكبير ، فحملوه الى البرازيل ونصبوا له منصة علي الشاطئ ، قبالة مدينة باهيا . صار هذا التمثال محل عبادة وحج تحت إسم “انطنيوس آركين” . هل يعرف البرازليون أين تقع آركين ؟ من المرجح أن يظنوها في “الأرض المقدسة” أي فلسطين وربما أعتقدوا أنها في بني سويف المصرية ، التي هي الوطن الأصلي للقس انطونيوس الكبير . كلا القرنين السابع عشر والثامن عشر كانا مزخرفان بالمعارك البحرية بين الدول الأوربية قبالة الشواطئ الصحراوية ، من أجل السيطرة علي موانئ تصدير الصمغ : بورتانديك وآركين . الهولنديون طردوا البرتغاليين والانجليز طردوا الفرنسيين من بورتانديك ثم احتل الفرنسيون آركين من اجل تدميره ثم بنى الألمان آركين من جديد . عندما أستلم الفرنسيون مرة اخرى الحصن من الألمان ، عام 1721، أبادوا جميع البيظان الموجودين بــ آركين ، وعددهم بالمئات ، لأنهم تحالفوا مع الألمان . وهذه المرة خرب الفرنسيون الحصن إلى الأبد . مقتطف من السلسلة السردية باللغة الفرنسية التي نشرها موقع “اكليراج”( eclairages) في الاسابيع الماضية ، الصفحة التالية عن تاريخ العلاقات القديمة بين البيظان والأوربيين . -