
في جلسة مساءلة برلمانية عقدت يوم 14 أبريل 2025، صرح رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو بأن بلاده "تتقاسم مع موريتانيا العديد من المصالح، من النهر إلى البحر، ومن الصيد إلى الغاز، فضلا عن قضايا جيوسياسية وأمنية". وأضاف: "عندما تتقاسم أمتان هذا الكم من المصالح، فعليهما أن تتعاملا مع بعضهما البعض بأفضل ما يكون، وهذا ما نأمله من أشقائنا الموريتانيين"، مؤكدا في ختام حديثه على "الثقة التامة في الإخوة في موريتانيا".
تأتي هذه التصريحات في ظل تحولات عميقة في البيئة الجيوسياسية لغرب إفريقيا ومنطقة الساحل، ما يمنحها بعدا استثنائيا وفرصة نادرة لموريتانيا لإعادة صياغة مكانتها الإقليمية، حيث أن المنطقة تمر بمرحلة انتقالية معقدة، تتسم بتبدّل موازين القوى التقليدية، وتراجع الأدوار التقليدية لبعض الشركاء الدوليين، وبروز فاعلين جدد يسعون إلى ملء الفراغ الأمني والاقتصادي والسياسي. وضمن هذا السياق، تصبح التصريحات السنغالية ذات طابع يتجاوز المجاملة الدبلوماسية، لتتحول إلى دعوة ضمنية لصياغة شراكة متقدمة.
أما بالنسبة لموريتانيا، فإن التقاط هذه اللحظة التاريخية لا يمثل فقط فرصة لتعزيز التعاون الثنائي، بل أيضا منصة لبناء نفوذ إقليمي يستند إلى عناصر الاستقرار، والشرعية السياسية، والتكامل الاقتصادي؛ ذلك أن إعادة تموضع نواكشوط إقليميا ضمن السياق الراهن بالغ التعقيد، تتطلب الحصول على حليف أو حلفاء موثوقين، والسنغال مرشح مثالي لذلك في هذه المرحلة الحساسة.
تعد موريتانيا والسنغال اليوم من الدول القليلة التي نجحت في الحفاظ على استقرارها الديمقراطي وسط محيط إقليمي تهيمن عليه الانقلابات والأنظمة الانتقالية، لا سيما بعد الانهيار الفعلي لمجموعة دول الساحل الخمس، وتشكيل كونفدرالية عسكرية مغلقة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ومن شأن هذه الدينامية المتسارعة أن تتيح فرصة ثمينة للبلدين لتمييز نفسيهما في أعين الشركاء الدوليين، ليس فقط باعتبارهما نموذجين للاستقرار، بل أيضا كمنصتين واعدتين لإطلاق مبادرات إقليمية ذات صدقية.
في موازاة ذلك، يوفر التعاون الاقتصادي بين البلدين فرصا غير مسبوقة للاندماج، خصوصا في ظل الاكتشافات الغازية المشتركة في حقل "آحميم الكبير"، الذي يضع الدولتين على خريطة الدول المنتجة للطاقة في إفريقيا جنوب الصحراء، ويفتح الباب أمام طفرة طاقوية مشتركة يمكن أن تعيد رسم ملامح الأمن الطاقوي في المنطقة. ويكتسب هذا التعاون أهمية إضافية بالنظر إلى ما يشهده العالم من تحولات في سوق الطاقة العالمية، حيث بات الغاز الطبيعي يحظى بمكانة متزايدة في استراتيجيات الانتقال الطاقوي.
ويتجاوز التعاون بين البلدين مجال الطاقة، ليشمل قطاعات حيوية أخرى مثل الصيد البحري وتسيير الموارد المائية المشتركة، حيث تعد الاتفاقيات المنظمة للصيد وتدبير نهر السنغال نماذج حية على قدرة البلدين على تسيير موارد استراتيجية بروح تشاركية. وتوفر هذه الأطر آلية مؤسسية يمكن البناء عليها لتوسيع التعاون نحو مجالات أكثر تنوعا تشمل النقل البري والنهري، والزراعة المستدامة، والتحول الرقمي، وتطوير البنية التحتية الذكية. ولا تقتصر هذه الرؤية التوسعية للتكامل الثنائي على تحصين العلاقة الموريتانية ـ السنغالية، بل تتيح أيضا صياغة نموذج تكامل إقليمي مصغر قابل للتوسيع والتكرار في مناطق أخرى من غرب إفريقيا.
وتستمد العلاقة الثنائية قوتها أيضا من البعد المجتمعي العميق، حيث يشكل التمازج السكاني واللغوي والديني عاملا موحدا نادرا في السياق الإفريقي، ويمثل أحد أبرز عناصر الاستقرار الهيكلي للعلاقات بين البلدين؛ حيث يمنح التداخل العميق بين المجموعات السكانية على ضفتي نهر السنغال، والذي يتجلى في العلاقات الأسرية والروابط الثقافية والاقتصادية العابرة للحدود، أي شراكة سياسية أو اقتصادية طابعا شعبيا واجتماعيا يصعب تفكيكه أو التأثير عليه سلبا. كما يعزز هذا الامتزاج من مناعة العلاقة ضد التقلبات السياسية أو الضغوط الخارجية، ويؤسس لقاعدة بشرية داعمة لأي مشروع تكامل مستقبلي، خصوصا إذا ما تم إدماج المجتمع المدني في آليات التخطيط والتنفيذ المشترك.
في المقابل، تفرز التحولات الجيوسياسية الراهنة، وعلى رأسها تخفيف القبضة الفرنسية وتراجع الانخراط الغربي في الساحل، فراغا إقليميا ملحوظا لم تعد الأطر التقليدية قادرة على احتوائه أو ملئه بكفاءة، حيث أدى انسحاب بعض الشركاء الدوليين إلى خلخلة التوازنات الأمنية والاقتصادية التي كانت قائمة لعقود، مما أتاح لجهات غير تقليدية أن تسعى لملء هذا الفراغ، أحيانا بمنطق أحادي أو أمني صرف.
وفي ظل هذا التراجع المؤسسي، يبرز التقارب السنغالي الموريتاني كفرصة نوعية لإعادة التموضع بشكل براغماتي ومتزن، يسمح ببناء تحالف عقلاني ومتدرج، قادر على ملء هذا الفراغ بمقاربة تنموية وشاملة، قائمة على السيادة والتكامل بدل التبعية. إن هذا التحالف لا يعوض فقط الغياب المؤسساتي، بل يمكن أن يؤسس لتوازن إقليمي جديد أكثر انسجاما مع متطلبات الاستقرار والتنمية في الساحل وغرب إفريقيا.
وضمن هذا الاطار فإن تصريحات رئيس الوزراء سونكو تفتح نافذة استراتيجية نادرة لموريتانيا، ينبغي ألا تهدرها بأي حال. فهي تعكس توفر الإرادة السياسية من جانب شريك إقليمي موثوق ومستقر، مما يمنح نواكشوط فرصة للانتقال من موقع الدولة الحذرة والمراقبة إلى موقع الفاعل المشارك في صياغة التوازنات الإقليمية، ذلك أنه بالتحرك الذكي والمدروس، وقراءة دقيقة للمتغيرات، يمكن لموريتانيا أن تتقدم بخطوات ثابتة نحو بناء تحالف إقليمي متعدد الأبعاد مع السنغال، يستند إلى التشاور الاستراتيجي المستمر، وتوسيع نطاق الاتفاقيات، وتنسيق المواقف في المنابر القارية والدولية.
ويتطلب هذا التحول تعزيز الأطر المؤسسية القائمة، من خلال إطلاق آلية دائمة للتشاور الثنائي تشمل الملفات الاقتصادية، والأمنية، والطاقوية، والبيئية، فضلا عن تعزيز حضور المجتمع المدني والقطاع الخاص في صياغة مشاريع مشتركة. كما ينبغي لموريتانيا أن تستثمر اللحظة الدبلوماسية لتشكيل فضاء تعاون ثلاثي أو رباعي، يضم دولا متقاربة في الرؤية والطموح، بما يضمن تنويع الشركاء وتقوية الهامش الجيوسياسي للبلاد.
والأهم من ذلك هو الحفاظ على التوازن والشفافية في إدارة الملفات الحساسة، وفي طليعتها ملف إنتاج الغاز المشترك، الذي يمثل حجر الزاوية لأي شراكة اقتصادية مستقبلية، حيث أن الإدارة الرشيدة لهذا المورد الاستراتيجي ستضمن مصالح البلدين، وتحد من احتمالات التوتر، وتمنح التحالف الوليد مصداقية أكبر أمام الشركاء الاقليميين والدوليين.
وهكذا تبرز العلاقة الموريتانية ـ السنغالية، في منطقة تتآكل فيها التحالفات وتتبدد فيها الثقة، وتزداد فيها هشاشة الأطر الإقليمية التقليدية؛ كأفق واعد لإعادة تشكيل الفضاء الإقليمي على أسس جديدة أكثر واقعية واستدامة. إنها لحظة استثنائية في الزمن السياسي للمنطقة، تتطلب من نواكشوط أن تتجاوز منطق الترقب، وأن تبادر بتفعيل أدواتها الدبلوماسية والاستراتيجية لبناء شراكة متقدمة مع السنغال، ليس فقط بوصفها حليفا طبيعيا، بل أيضا بوصفها شريكا استراتيجيا في صياغة توازن إقليمي جديد. فالمبادرة في هذه المرحلة ليست ترفا سياسيا، بل ضرورة وجودية لضمان مكانة موريتانيا في معادلات الغد، في محيط ملتهب وتنافسي لا يرحم المترددين.
مركز أودغست للدراسات الاقليمية
اقلام