القبيلة والدولة في موريتانيا بين" الذاكرة والواقع " / ذ. السالك ولد اباه

اثنين, 25/08/2025 - 18:08

الحديث عن القبلية في موريتانيا ليس من الأمور السائغة، لفرط ما يثيره من حساسية وانقسام في الرأي العام. فـ"القبيلة" ليست مجرد وحدة اجتماعية عابرة، بل بنية عميقة الجذور، تتشابك مع الهُوية والانتماء، وتمتد في وعي الأفراد بوصفها ملاذًا وعنوانًا ومصدرًا للاعتراف الاجتماعي.
غير أن تاريخ علاقة القبيلة بالدولة لم يكن دومًا وئيدًا. فمنذ الاستقلال، شهدت هذه العلاقة توترًا واضحًا، تجلّى في محاولة النظام المدني في الستينات الحد من سطوة القبيلة، بل كاد يُقصيها من المشهد السياسي والإداري، لولا أن انقلاب 1978 على الحكم المدني أوقف هذا المسار، حين جاء العسكر إلى السلطة وهم أبناء تلك القبائل، فعادت الأخيرة إلى الواجهة، لا بوصفها موروثًا تقليديًا، بل *كأداة دعم وابتزاز سياسي*. ومنذ ذلك الحين، أُعيد إنتاج القبيلة كفاعل سياسي غير رسمي، يساند الأنظمة ويبتزّها في آنٍ معًا، مما كرس الجهوية وأشاع ثقافة *الزبونية والمحسوبية والفساد المالي*.
وقد ازداد هذا الدور حدّة مع انطلاق المسار الديمقراطي، حيث تحولت القبيلة إلى *أداة انتخابية*، عبر تحكمها في الكتلة التصويتية الريفية وشبه الحضرية، مستفيدة من *التفاوت الاقتصادي، وضعف البنية التعليمية، وغياب الوعي المدني*. فغدت وسيلة شبه حصرية لتبادل السلطة عبر صناديق الاقتراع، يقودها الوجهاء، ويضبطون إيقاعها ضمن صفقات خفية تعيد إنتاج النفوذ أكثر مما تعيد إنتاج الكفاءة.
ولم يقتصر تأثير القبيلة على المجال السياسي، بل امتد إلى *الوظيفة الاجتماعية*، حيث لعبت أدوارًا تعويضية في ظل قصور الدولة في مجالات التعليم، والصحة، والحماية الاجتماعية. فهي التي تتكفّل بمصاريف العلاج، وتغطي تكاليف التعليم، وتحتضن المحتاجين في غياب مؤسسات الرعاية. لكن هذا الدور، رغم نبله، يعكس *فشل الدولة في أداء واجبها السيادي، وتراجعها عن مسؤولياتها في المناطق الداخلية، حيث تملأ القبيلة الفراغ وتعيد فرض سلطتها التقليدية*.
وفي سياق تحولات أعمق، لا يمكن تجاهل أن *اشتداد الصراع في الصحراء نهاية السبعينات* – وهو صراع أُلبِس لبوسًا قوميًا – قد أصاب البنية القبلية العربية (البيظانية) في الصميم، خصوصًا أن حرب الصحراء جرت بدعم عسكري من الجزائر في عهد بومدين، وساهمت في تمزيق النسيج الاجتماعي الداخلي، وزادت من هشاشة الدولة الفتية، قبل أن يُنهي انقلاب 1978 تلك الحرب، ويُعيد ضبط التوازنات على أسس جديدة، أقرب إلى الرضوخ للأمر الواقع منه إلى بناء رؤية وطنية موحدة.
اليوم، ومع تراجع مركزية القبيلة جزئيًا لصالح تأثير المال السياسي الذي تحتكره الدولة، واتساع الوعي المدني لدى فئات شابة، بدأت القبيلة تفقد بعض هيمنتها، لكنها لا تزال تحتفظ بقدرتها على *توجيه المزاج الانتخابي، والتحكم في دوائر النفوذ المحلي*. وهو ما يعكس استمرار التداخل بين التقليد والحداثة، بين الولاء والانتماء، وبين دولة المواطنة ومجتمع العصبية.
*الخاتمة*  
تتأرجح علاقة القبيلة بالدولة بين التوازي والصراع، وتختلف مستويات هذا التأرجح بحسب تحولات السياسة وتبدلات النظم. غير أن الحسم في أي صراع محتمل يظل بيد من يمتلك شرعية القوة، ومن يملك أدوات التأثير الحقيقي: *المال، والتعليم، والصحة، والأمن العام*. وهي مجالات تحتكرها الدولة الحديثة، ولا يمكن للقبيلة أن تنازعها فيها إلا إذا *تخلّت الدولة طوعًا أو إهمالًا عن دورها، أو تنازلت عن سلطتها تحت ضغط المساومات*. فالقبيلة، وإن بقيت حاضرة وجدانيًا واجتماعيًا، فإنها لا تملك ما لم تهبه لها الدولة، ولا تمارس نفوذًا خارج ما يُتاح لها من هامش.
 ذ. السالك ولد اباه