وترجل الفارس الشهم عن صهوة الصحافة والدبلوماسية، ليترك فينا ذكراه التى تختزل كل معانى الإباء والقناعة والعزة والكرامة والكرم والإيثار ليضعنا أمام امتحان الصبر والإيمان بقضاء الله وقدره.
اتحدث هنا عن إيقونة الصحافة وعميد الإذاعيين الفقيد محمدن ولد احمد سالم الذي رحل بصمت وهدوء بحر هذا الاسبوع .
لقد عرفته وسمعت عنه وسمعت منه وسافرت معه ..
عرفت صوته قبل ان اعرفه وجها لوجه- والاذن تعشق قبل العين احيانا – فارتبط صوته الاذاعى الجهوري المميز فى مخيلتى بجانب من ذكريات طفولتى اواخر سبعينيات القرن الماضى..
سمعت عن مساره وسيرته فى فترة عمله الدبلوماسي من الزميل بدبده محمد مؤمل الذي رافقه فى تلك المرحلة وهنا اروي لكم بعض ما كان يحدثنى به فى اوقات الفراغ ايام اقامتنا معا بحى “سعادات اباد”بوسط طهران عام 2003 حيث قال :
( لقد احتضنني ولد احمدو سالم عند التحاقي بالإذاعة باقتراح من يحيى حي. وحين حاول ذوو القربى- وما أبرئ نفسي من السبب- منع تعييني وقف معي هو ونغايدي آلاسان مدير الأخبار حينئذ ثم الفاضل دحن حمود.
وعند تعيينه سفيرا في رومانيا صيف عام 19800 بادرني باقتراح أن أذهب معه موظفا في السفارة للجمع بين العمل والدراسة وأقرضني ثمن التذكرة أقمت معه في بيته وعلى نفقته يعاملني كابن لا يبخلني نصيحة ولا عونا… في ذاكرتي يضيف بدبده صورته وهو يجلس على سفرة المائدة في غير أوقات الطعام وقد وضع مصحفه أمامه فوق الطاولة يقرأ فيه… وفي الذاكرة كذلك صور من أطرافه يقطر منها ماء وضوئه وهو يلبس بدلته عائدا من مكتبه فى بوخارست وكان ذا ذوق رفيع ومتفنن في لباس الغرب…
المصحف والصلاة كانا رفيقيه في حله وترحاله إلى اليونان وبلغاريا تيودور جيفكوف ويوغوسلافيا ما بعد تيتو وألبانيا أنور خوجا. فقد كان محمدن معتمدا في هذه الدول الأربع مقيما في رومانيا تشاوسيسكو .. ذاك زمن كان المصلون فيه قلة.. والناظرون في المصحف أقل. .خاصة في فترة الشباب وبين النخبة أحرى وأنت تعيش في بلاد المغريات و الفتن.! )
زرت الفقيد مع الزميل بدبده الصحفي الآن في قناة الجزيرة قبل ثلاثة أعوام في حاضرة الشريعة وقضينا معا وقتا ممتعا وجمعتني وإياه رحلة الى امحيجرات قبل عامين واستمعت منه إلى تفاصيل هجرته إلى المغرب مطلع ستينيات القرن الماضي أيام انخراطه في حزب النهضة وأمتعني بقصة دعوة الرئيس له من اجل الالتحاق بالإذاعة بعد ان أعجب بصوته وإلقائه لخطاب أمامه فى تجمع شعبي ببلدة احسى لغنم الواقع على بعد نحو 55 كلمتر جنوبي نواكشوط؛ وحدثني عن بعض ذكرياته الممتعة مع الإذاعة وعن طرائف أسفاره مع الرئيس الراحل المختار ولد داداه فى الداخل والخارج.
ولا أنسى ما أحاطني به وانأ الشاب المبتدئ من نصح ورعاية وعطف وحنان.. كان ذلك فى سفرنا معا الى تونس مطلع العام 91 من القرن الماضي حيث قضينا أكثر من شهرين فى فندق “البلفدير” .. مازلت أتذكر وانأ أقيم له الشاي في غرفتي ورقمها 405 ونحن نتابع نشرة الأخبار ، دموعه وهى تنهمر حزنا على من قضوا فى ملجىء العامرية ببغداد الذي قصفته الطائرات الامريكية فى 13 فبراير عام91 مما أدى الى استشهاد 400 مدني اغلبهم من الأطفال والنساء كان ذلك من أكثر أيام حرب الخليج الثانية دموية .. لقد كان الفقيد مهتما بمتابعة مجريات تلك الحرب إلى درجة انه يوزعنا على غرفنا لمتابعة القنوات التلفزيونية لنجتمع لا حقا إنا وهو والمرحوم اسلم ولد انتاد والأستاذ محمد عبد الله ولد الوداعة أطال الله بقاءه لنقدم في النهاية حصيلة شاملة لحصاد أخبار القنوات المختلفة وفى ذلك ما فيه من اهتمام بأمور المسلمين..
ومبلغ القول إن الفقيد كان مؤمنا صادقا وطنيا ومهنيا وإنسانا .. وكان قنوعا مثابرا أبيا وصاحب نكتة وطرافة ، قلب له البلد ظهر المجن ولم تمنحه الإذاعة التي منحها عرق الجبين اي اهتمام يذكر.
رحمك الله يا محمدن والى جنات الخلد.
محمد عبد الله ممين كاتب صحفي ومراسل دولي