حظيت بنسخة من كتاب " مختارات من الأدب وومضات من التاريخ الجكني لمؤلفه ــــ ابن عمنا وعمدتنا في التاريخ الموريتاني عموما والجكني خصوصا ــــ الفقيه، الأصولي، المعقولي، الشيخ الصحة ابن الطيب ابن المعزوز.
وقمت بقراءة الكتاب فور وصوله إلي، تحدوني في ذلك الرغبة في مطالعة كل ما يكتبه الرجل في موضوع الأدب والتاريخ...فألفيته كتابا ممتعا ومؤنسا، لا يقل شأوا عن أمهات الأدب، لما يشع به من الحقائق التاريخية والتي ثوٓبها بمختارات عذبة من الشعر الجكني، قرأها وأجراها على ذوقه جاعلا منه معيار لذلك". أختار من الموجود فأقبل ما قبله ولا أقلد في ذلك مجتهدا غيره "، والحقيقة أنه ماهر بالتاريخ وعلله، ذائق للأدب وفنونه، شهد له بذلك شيخه العلامة المحقق محمد عبد الله ولد الإمام في محاورة أدبية جرت بينهما كانت طريفة الموجب، أراد المؤلف أن يتخفى وراء ستار الجن ليكون واحدا منهم وليتسنى له إخراج مكنونه ومفاكهة شيخه، فيقول الشيخ عبد الله في ذلك
يراسلن الأريب ولا غريب........ يماثل ما يراسلن الأريب
ولم نر شخصه لاكن علمنا.... بأن الشعر ناظمه أديب
قدم المؤلف قراءة ماتعة لما تحصل عليه وأورده من الحقائق التاريخية والأشعار الجكنية ، دون أن تأخذه في ذلك عاطفة التمجيد ونزوع العرق , بل حرص كل الحرص علي قول الحقية التي يتصورها .
قليلا به ما يحمدنك وارث........إذا حاز مما كنت تجمع مغنما
جلت مع المؤلف في مختاراته الأدبية وومضاته التاريخية، فكان ينشد من ورائها بحق، تقريب الحدث وكشف ملابساته التي هي جزء من قراءته وتحليله، معتبرا خلو الساحة الأدبية والتاريخية من قراءات كاشفة للحدث مكتفيا في غالب أحوالها بالإستناد والاعتماد على المصادر الأجنبية، وهذا ما حدي به إلى الكتابة في موضوع الأدب والتاريخ لشدة ارتباطهما ولما يقوله هو (...ومن هنا وجدت في نفسي الرغبة لسد الفراغ في كلا الموضوعين لترابطهما ولأنه كلما اتسع عدد الشعراء كلما اتضحت الصورة الأدبية وانكشفت الوقائع التاريخية)
وخلال قراءتي للكتاب قمت بتسجيل بعض الوقفات المهمة أردت أن أتحف بها القاري لهذا الكتاب
الوقفة الأولي: القبيلة الجكنية والعلم
لاحظت أن المؤلف في هذه النقطة حرص علي إبراز المكانة العلمية لقبيلته دون إفراط منه ولا تفريط ودون أن يحصر العلم فيهم, فرأيته عند ما وقف على مقولة " العلم جكني " والتي جرت على لسان سيد عبد الله ولد الحاج إبراهيم في مناسبة معروفة بسط القول فيها الشيخ محمد عبد الله ابن سيد الأمين قال ــــ يعني المؤلف ــــ: " ...ثم هي من حيث معناها لا يمكن فهمها بأن العلم حصر عليهم دون غيرهم وخصوصا إذا أعدنا للذاكرة المحلية حكاية أجداد قبيلة المجلس ...وإنما يمكن وضعها في سياق المبالغة في شدة ارتباطهم به علي أي حالة كانوا بها أوأنهم كانوا أول الناس ارتباطا به وهو ما يؤيده الخليل بن نحوي في كتابه " بلاد شنقيط المنارة والرباط", فأري أن التوفيق حالف المؤلف في كثير من مسائل هذا الكتاب ومنها هذه المسألة التي طالما ترنح بها الكثير من باحثي القبيلة وغيرهم جاعلين منها وثنا تاريخيا يصعب تصوره والعمل بمقتضاه , سيما أن العلم منتشر بين قبائل الزوايا بصورة عامة, في حين أن المؤلف خفف من تلك النبرة معتبرا في هذه الروايات عنصر مبالغة من نوع ما , دون أن ينسي أو يتناسى عنصر المصداقية في هذه الروايات وهو ما تحلت به قبيلته عادة من التشبث بالعلم وطلبه رغم ما عانت من فتن وحروب متلاحقة ورغم حالة الترحال التي تعودت عليها المجتمعات البدوية , وهذا ما قصده المختار ابن ابونه بقوله:
قد أتخذنا ظهور العيس مدرسة.... فيها نبين دين الله تبيانا
وقصده أيضا تلميذه عمنا أحمد محمود ولد المختار في قصيدته المشهورة والتي وثق فيها ما دار من حرب بين عشيرته مع إحدى القبائل ذات المكانة العالية، عند ما أراد أن ينبه إلى أنها لم يشغلها السلاح عن العلم فكان قلمها يوجه سيفها فقال:
لهم ضاء ليل العلم وامتد ضوؤه ...... ودا نت لهم فيه قضاة المجالس
ومازال تدريس العلوم بأسرها ..............لديهم ومازالوا بدور المجالس
وهذا المنحى الذي نحاه المؤلف في تخريج أن العلم لا خصوصية لمجتمع به دون غيره ـــ وإنما الجد والتكرار والتأني هما وسائل تحصيله والحصول عليه، ـــــ هو الإنصاف والموضوعية العلمية والتاريخية التي يجب أن يسلكها ناشد الحق والحقيقة
الوقفة الثانية: السيف والقلم
ـــــــ في هذه الوقفة من وقفات الأدب والمحطة التاريخية، أراد المؤلف أن يزاوج بين السيف والقلم مثبتا ذلك لقبيلته من خلال استعراضه لشعر شاعرين هما: الإمام بن ماناه وعمنا أحمد محمود ولد المختار، فأما الإمام فقد عايش الصراع الفكري الذي وقع بين المختار ابن بونة وتلامذته، وأما احمد محمود فقد عايش الصراع الدموي الذي دار بين قبيلته مع إحدى القبائل ذات المكانة العالية، وقد وثق ذلك الصراع وأثبته في قصائد طويلة أوردها الملف في كتابه، فجمعوا بذلك لقبيلتهم بين السيف والقلم. فصار مما تمدح القبيلة به قولهم " : أيد فالركاب وحدة فالكتاب". وهو عين ما قصده الإمام بن ماناه بقوله:
لنحن قضاة الناس إن عز مشكل.... ......وإن شمرت عن ساقها الحرب بسل
ونحن مناخ الضيف أيام لا قري................... وإن عنت الشهباء للمال بذل
وقصده أيضا السدات ولد حين بقوله :
علونا ببذل المال في كل أزمة................... وحل عويص العلم في كل ما ألم
نخوض بحور الموت في لجج الوغي.......ونركب حد السيف في أحلك الظلم
الوقفة الثالثة: التنظيم القضائي
ــــــ في محطة أخري من محطات الكتاب، أورد المؤلف ما حكي عن القاضي محنض باب ولد أعبيد أنه جيء إليه بقاطع طريق فذبحه بيده التي كانت ترتعد من شدة الكبر في السن ، وهنا يحاول المؤلف الكشف عن سوء وهشاشة التنظيم القضائي وترديه في فترة قضاة الأمراء، معتبرا أن الشيخ محنض باب ولد عبيد ــــ وإن أصبح في عهد محمد الحبيب قاضي إمارة الترارزة والمرجع المعتمد في النوازل الفقهية , إلا أنه ظل يري لنفسه وهو بالبلاد السائبة ما علي الإمام الأعظم من تنفيذ الأحكام وأخذ الحق من الظلام إن استطاع إلي ذلك سبيلا , فيري أن توقف ذلك علي نصب الإمام وإقامة القضاة فيه تضييع حقوق, وما مارسه من ذلك كان بسبب صرامته الدينية ونفوذه الروحي والسياسي القوي , وإلي ذلك أشار هارون ابن الشيخ سيديا ( كتاب الأخبار) و ميلود بن المختار خي في "عيون الإصابة في مناقب الشيخ محنض باب" وسيد أحمد بن اسمه في كتابه "ذات ألواح ودسر", وأتفق مع المؤلف في نظرته التشاؤمية والتي أعتقد أنه اكتسبها من خلال مطالعته لكتاب البادية للشيخ محمد المامي رحمه الله الذي كان أول من سمي هذه البلاد بالبلاد السائبة لعموم الجهل فيها وقلة الدين وكثرة التنازع والخصام بين الناس وندرة من يفصل بينهم، وهو ما تعطلت بسببه الحدود وانعدمت به التعازير ولم يوجد من تطبيقات الحدود سوي هذا المثال , رحم الله الشيخ محنض باب فهو كما قال محمذن بن أحمد بن العاقل :
إن شد الرحال صار إليكم.... وإليكم محطها في القضاء
الوقفة الرابعة: دخول المستعمر إلى هذه البلاد
وقف المؤلف واستوقفنا عند هذه الوقفة الخاصة بدخول الاستعمار لهذا البلد وكيف كانت قبيلته في ظل الاستعمار وكيف أن المجدد الشيخ سيدي بابا ولد الشيخ سديا بعد أن رأي ما يقع من الفوضى وما وصلت إليه السيبة أخذ يراسل الفرنسيين وأخيرا قدم إليهم في ستين رجلا من وجهاء القبلة ومن بينهم القاسم رئيس الجكنيين في القبلة، وما وصل النصارى إلى أفطوط حتى كاتبهم العبقري بن المين، فهنا أريد أن أشيد كما المؤلف إلي الواقعية التي تحلي بها الشيخ سيدي بابا ولد الشيخ سيديا ومن والاه وسانده في إ طار تعامله ومهادنته للنصارى , فقد رأي الشيخ بابا أن الحالة التي تعيشها البلاد من الفوضى والنهب وسفك الدماء والتسيب تقتضي مهادنة الفرنسين والخضوع لسيطرتهم, وأن المسلمين في غاية من الضعف والاختلال وأن النصارى في غاية من قوة الشوكة و الاستعداد فكيف يسوغ في الرأي وفي السياسة بل وفي الشرع أن ينابذ الضعيف القوي وأن يحارب الأعزل الشاكي السلاح , ويقارن الشيخ بابا في رسالته لأهل أطار بين بلاد السودان وغيرها مما دخله الفرنسيون وبين بلادنا فيقول (....فإن هذه البلاد الصحراوية منذ قرون في سيبة ما كان يرجي زوالها قبل هذ الأمر ولا يخفي ذلكم كما لا يخفي أن ما يتخيل في بعض الأوقات من زوال سيبتها غير حقيقي إذ لا يرتفع به التقاتل والتناهب والتظالم , ولا يخفي ما في السيبة من المفاسد , والعيان فيه مغن عن البيان , ولا يخفي ما صارت إليه بلاد السودان وغيرها مما دخله الفرنسيون من العافية والعمارة بعد ما كانت فيه عكس ذلك.) وقد رأت فئة كبيرة من الفقهاء والمجتهدين وجاهة هذا الرأي وسلامته من القوادح، منهم على سبيل المثال، العلامة المجتهد المرابط محمد الأمين ولد أحمد زيدان الذي أفتي في بداية الأمر بالهجرة عن المحتل ثم لما وقف علي رسائل الشيخ بابا رجع عن رأيه ، وليس من الإنصاف اتهام الشيخ بابا في مهادنته للنصارى بعد أن أسس لرأيه وأظهره في كثير من رسائله وسلمه الكثير من العلماء وتلقوه بالقبول هذا مع العلم أن بوادر التفكير في الاستيلاء علي هذه البلاد سبقت ميلاده فيقول حفيده محمد مولود ولد داداه" الشنافي" : ( إن حملة الأقلام والأقوال اتهموا الشيخ سيدي بابا في حدث جرت بوادره والتهيؤ له والعزم عليه قبل ميلاده .) رحم الله الشيخ سيدي باب ولد الشيخ سيديا وأثابه فقد أجتهد في واقعة لا نص فيها وأصاب فله أجران أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ويدل اجتهاده هذا علي علو مكانته ومنزلة فهمه من التشريع فهو كما قال صديقه الجهبذ محمد فال ولد باب ولد أحمد بيبة" اباه الكبير"
علي الشيخ قد عاب الغبي بجهله............... تتبع أقوال النبي وفعله
وما في كتاب الله في النص محكما.... وما صح من تقرير خاتم رسله
وما قال جمهور الأئمة تابعا ............لما صح من معني الدليل ونقله
ومن كان لا يرضي من الشيخ سيرة......فليس يرضي المرء إلا بشكله
فإني أراه كان حقا مجددا......................يدل علي رشد ويهدي لسبله
وأختم هذه الوقفات بمطالبة الشيخ الصحة ابن الطيب بمزيد بحث حول التراث الجكني لعلمي بأنه جذيله المحكك وعذيقه المرجب الذي يستطيع أن يأتي فيه بتحقيقات دقيقة و نادرة تساعده في ذلك ملكة تعليلية عالية ومكتبة زاخرة بنوادر المخطوطات ..
وأشكره في النهاية علي الجهد الذي بذله في إطار بحثه الأدبي والتاريخي هذا، والذي توصل فيه إلى كثير من النتائج وناقش فيه الكثير من الإشكالات وساق لذلك من الدليل ما يؤيده، فقد وجدت كتابه هذا بحق كما وجده الشاعر الكبير محمد الحافظ ولد أحمدو التندغي حين قال:
يهش إليه القارؤون كما اشتهت......أوارك أنعام فلا الحمضات
عليك بهذا السفر لا تعدونه ........وشد عليه محكم القبضات
أثاب عليه الصحة الله إنه. .......يحفز شنقيطا إلى النهضات