على تقاطع ليفيربول وجادة هايفارت وبين محال الجزارين المغاربة،بالكاد تميز ذلك الباب الخشبي،ففي النهار يستحيل ان تكترث له لكن توقف وابصص(بكسر الصاد الأولى) مليا وسترى ذلك الضوء الأحمر الخافت،تقدم افتح الباب نهارا،وسيتحول الى ليل بمجرد سماعك الصرير الذي يصدره فتح الباب،قاعة مظلمة الا من فوانيس بعثرت ببخل شديد فبدت كشموع ميلاد،هدأة وسكون الشخوص توحي بأنهم في طقس كنسي ينتظرون خروج الراهب او الأب الذي سيعمدهم حاملا مباخره ناقلا لهم تعاليم السماء البعيدة..لا شيئ من كل هذا، تقدم خطوات واعدل ذات اليمين ستجد مزهرية عملاقة من الآجر تظل حسناوات من اوروبا الشرقية وبالذات من رومانيا حاسرات كتماثيل شمع، لكنهن غاضبات النظرات،اتركهن لحسرتهن وارفع عينيك قليلا مبتعدا بمداهما مترين او ثلاثة ستبصره لاشك. إنه الجالس ويداه على المنضدة تحفان قنينة "جيبيلير"وهي الجعة التي اشتهرت بها البلاد،ينحني متأملا القنينة ومتمعنا في ثمالتها وفي اشياء لاتتراءى للدهماء ولا لمن لم يعرفوا السكر..الحاج كيف حالك؟
-بخير مادمت انظر في وجه حبيبتي..الحاج مغاربي قرر ان يعيش بمفرده بعد دفن شريكة رحلته وبعد ان تخرج اولاده ورغم انه ستيني قوي نسبيا الا انه وجه بوصلة حبه الى حب "جيبيلير" واسامة بن لادن،وكره اغنية سيرخي الاسبانية،ففي تلك الأيام كانت اغنية "اللاست كيتشيب" تلك تسمع في كل حانة ومقهى وحتى في محطات المترو تسمعها وهي تخترق سماعات من هم في الطابور..
ظل الحاج ملتزما بطقوس لايساوم عليها،فحين تمر الأغنية على مسمعه يحمل بيرته ويهدد بالخروج احتجاجا: لن ترغموني على تتبع فتيات من العيدان يتصنعن الدلال وكأنهن عربيات..لأن الحاج مهم ومحترم ولايزعج ويصرف حدود الخمسين اورو يوميا،يشغل الألباني "يادي" اغنية اخرى ويعود الحاج الى مكانه ممتنا وشاكرا لطف صاحب المحل،اما اذا سمع اي زبون يتحدث بسوء عن بن لادن فالاساءة هنا تعنيه شخصيا وعليه ان يتصرف، وتصرف الحاج في مجمله تصرف مغاربي هذبته اوروبا وقتلت فيه الفعل كردة مقبولة على الكلام او الرأي..سيسحب جسمه المتثاقل ويعلن الاحتجاج قبل ان يعيد "يادي" الأمور الى نصابها بالاعتذار للزبون الخاص والمتميز.
بين الحاج والحسناوات الغاضبات دائما،ترك يادي منضدة كبيرة ومقاعد لشلة اليساري الموريتاني الذي يشرب اكوابا مابين القهوة والعصائر والمياه الغازية ،وفي كل مرة يترك اكرامية معتبرة لصاحبة الوشم الأخضر "ايلين"ثم سرعان ماتنادى الرفاق الى المكان وصار مجلسا مفضلا لشلة الموريتانيين الفارين من الظلم او من الجوع او منهما معا..تسمت الحانة او المقهى باسمه وصار "يادي" يهتم بالجماعة اكثر من كل الجلسة فهؤلاء لايتشاجرون و لايسكرون وإن فعل احدهم فسيظل مثل الأوروبيين في هدوئه، كما انهم بالنسبة للألباني سيحكمون يوما بلادهم ماداموا يخرجون من عنده الى مؤسسات الاتحاد الأوروبي فينقل التلفزيون انشطتهم، خاصة في الفترة التي كان فيها الاشتراكي "اليو دي ريبو" رئيسا للحكومة ،ومن يدرى قد " ادخل معهم موريتانيا واحصل على رخصة مطعم، فأنأ كنت صديقا للرفاق..هل هذا مايفعله الرفاق حين يحكمون؟
اذكر مرة اننا كنا نناقش حين مر من امامنا الاسلاميون الثلاثة ، جميل وديعة محمد محمود ولد سبدي،كانوا قد خرجوا من عند احد انصارهم من الأنصار في شارع ليفيربول متجهين الى محطة ميدي،سرحت قليلا والرفاق يعلقون على الظروف التي اوصلت الرجال الثلاثة الى بلاد الكفر، اذ فروا من ظلم مسلم الى عدل كافر،ويقول احد الرفاق: هنا الاسلام اذ هنا العدالة.
.فكرت في المسارات وفي التقائها وفي الاختلاف،الفرسان الثلاثة،الحاج،الحسناوات الغاضبات،الرفاق وانا ويادي الحالم بتحسين ظروفة من الحسناوات ومن حزن الحاج الأبدي،ومن شبان مازالوا يحلمون بانتصار يسار شاخ وهرم في مزارعه الحقيقية.
يحدث ان يسخن النقاش وترتفع العقائر ويظهر الامتعاض على وجوه الحاضرين من زوار وندل فيتدخل الحاج بلسان رطب وثقيل: ولد الطايع لن يذهب لأنه الرئيس،والرئيس في عملتكم يعادل الملك في البلاد الأخرى، والملك لايذهب لأن الشعب يريده والله ايضا..الكلام لايقدم ولايؤخر.اذهبوا الى بيوتكم فالبرد في اوروبا سيقتل فيكم سخونة وانفة الصحراء، او ابحثوا عن عمل ينفعكم في الرحلة الطويلة فالموت صار حلما لايناله الا الصالحون من امثال زوجتي..الحياة طويلة يارفاق فاستعدوا لها واتركوا الكلام والتنظير للأغبياء..
اذكر انني سمعت اسم الضابط ولد عبد العزيز لأول مرة داخل تلك الحانة،حيث زارنا سيدي باب ولد اللهاه الذي اصبح اليوم نائبا في البرلمان،يومها اخبرني عن ان الرجل قوي وكذا وكذا.
لم ادفع له مقابل الاخبار، اولا لأنه لايحتاج مالا وانا لا املكه لكن لسبب آخ وهو انني لم اكن اعتقد حينها ان النواب يتقاضون مقابل الابلاغ والاخبار..
الى اليوم مازالت الحانة على حالها حسب الوارد من اخبار تلك البلاد اما الحاج فنال الموت اخيرا.وترك قنينته لمن سيخلفه.
الرفاق تشتتوا فمنهم من مازال يقارع الاستبداد هنا وهناك في شارع آخر غير بعيد من الحانة ومنهم من باع هنا دنياه بدنيا غيره وانتهى به الحال سجينا ومنهم من ينتظر،اما الاسلاميون الثلاثة فبعكس الحاج وجل الرفاق مازالوا يسيرون جنبا الى جنب و يعتقدون ان الموت قادم في كل لحظة وان ترجمة الرئيس الى ملك لم تكن دقيقة فالملك تعايش مع من لم يشربوا من كأس الحاج ولم يقتنعوا باستحالة الموت لهذا لم يذهب اما الرئيس فناصبهم وغيرهم العداء و لهذا ذهب.."ايلين" عادت نهائيا الى بوخاريست..
"يادي"ربما بنى احلاما جديدة مع وافدين جدد.