إن إدريس ديبي الذي هو محارب حقيقي، ولد وترعرع في جحيم الحرب ولم يعرف سنة واحدة هادئة، وهو الذي تشكل فرقعة المدافع المعادية موسيقاه الليلية الاعتيادية، اعترف بالواقع صراحة بشكل علني. ارتمى بكل ثقله في المعركة، كما تعود على ذلك أبناء الشعب التشادي الرائع، ولكن بعد أن توغل في الخطر ترك هو ومشاكله الاقتصادية ومعاناة شعب لم تكن الطبيعة عادلة معه.
هل بالإمكان فعل شيء في كفاح الإرهاب أحسن مما فعل إدريس ديبي؟ أبدأ !
المتحكمون في الرقصة المعادية للإرهاب لم يهتدوا إلى حد الساعة للصيغة والطريقة لحصر الحريق والحيلولة دون انتشاره، وفي اضطرابهم يريدون أن يلقوا الغاز القابل للاشتعال لإخماد النار.
إخلاء غرب الصحراء من الجنود سيكون الطامة الكبرى، سيصبح الإرهاب لا رادع له، يصول ويجول على طول العمود الفقري للصحراء الكبرى من بيلمة إلى الداخلة.
بعد خمس سنوات من الجهود من أجل فرض السلم في الصحراء الكبرى و"الساحل" أصبح من يتزعمون تلك الحملة مثل من يجري وراء الطيور أو وراء حريق مراعٍ لسانه الأمامي المدمر لا يمكن اللحاق به.
كان من المنطقي، منذ البداية، تكوين منطقتي أمن واٍستقرار، نقطتي ارتكاز يوثق بهما، على طرفي قوس الحريق. فمن بين جميع الدول المتماسة مع هذا البطن الرخو المجتاح من الإرهاب فإن تشاد وموريتانيا وحدهما قابلتان للتأمين وأن تصبحا سدودا آمنة، ليس فقط لأنهما دولتان صحراويتان بإمتياز، مع أن هذه المعطاة تأتي في مقدمة الاعتبارات، ولكن لأنهما بلدان عرفا في فترة السبعينات حروبا داخلية.
في الواقع، في ما يخص موريتانيا، السلاح لم يطرح من 1900. فبعد السيطرة الفرنسية عام 1934، بقيت جيوب تمرد سماها أهل الحوض: "أهل الكدية". في الشمال جَند ما يُعرف بجيش التحرير الكثير من الناس ما بين سنة 1956 و1960 وامتد الأمر بعد ذلك إلى الحوض ولم تنته تبعاته إلا عام 1963.
تأمين تشاد بسيط، واضح، هو اقتصادي لا غير.
تأمين موريتانيا هو أعقَد وأصعب بالنسبة للقوى الدولية النافذة. فهو يتطلب مراجعة ذهنية، وتغيير في البرمجة بلغة الكومبيوتر. لأنهم لم يفهموا أن موريتانيا وأمنها وسلمها مرتبط عضويا بالصحراء الغربية (الاسبانية سابقا). من يريد أن يفرق بين موريتانيا والصحراء الغربية، في التحليل، هو واهم. من يريد أن يؤمن موريتانيا ويطمئن سكانها عليه أن يتوجه نحو حل حقيقي لمشكل الصحراء، أي حلا يرضي سكانها.
بدون ذلك، المضي من أجل الموت في باماكو أو موبتي هو تهور لا يفهم وخفة لا تقبل. إذا كان ليس عندنا ما نقدمه للموريتانيين في سنة جفاف شهباء سوى الموت خارج وطنهم، فإنه تجاوز لكل الخطوط التي يمكن تصورها. وأي حرب سيقام بها في فترة أزمة اقتصادية حادة والموريتانيون ممزقون داخليا وقلقون على مستقبلهم، والبلد يغلي مثل مرجل ساحرة؟ فلا يمكن تصور دخول حرب، إذا كنا ما زلنا نتمتع بحبة دراية.
لا شك أن لدينا مؤسسة عسكرية تستحق التقدير ولكن إذا كانت لدينا درة جميلة فهذا لا يعني أن نجعل منها كرة مدفع عند أول فرصة. علينا أن لا ننسى أن الجيش هو العمود الفقري للبلد.
البلد الذي كان في وضع غير مرضي نتيجة لتبذير وتخبط لا يصدق، زُجً به، في السنة الماضية في ارتباك جنوني بمفعول مسلسل لا يدركه العقل، والذي كانت أولى طلقاته صفعة التعديل الدستوري، الذي رفضه البرلمان ولكنه مع ذلك فُرض. ثم تلت ذلك تصرفات طائشة تبرهن ليس على التبصر وإنما على التوتر والانفراد والانعزال عن الواقع، وهي أمور حذر منها قبل 2400 سنة، توسيدود، ناهيك عن الخليفة معاوية بن أبي سفيان.
تمت متابعة شيوخ في البرلمان غير طيعين أمام المحاكم وزج بأحدهم دون أدنى حد من اللباقة، في ما يقال، في السجن لمدة عام، كما تمت متابعة صحفيين ونقابيين أمام المحاكم، ولكن إذا سجن البرلمانيون فإن أولئك عليهم أن يرضوا بمصيرهم. إذا ضرب الإمام خاف المؤذن.
رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو خصصت له نصوص على مقاسه، حسب الجميع، هدفها تعطيل مؤسساته. ما يعاب عليه يصعب في الواقع إدراكه بالرغم من المضامير والتصاريح الهوجاء غير المقنعة. المهم أن أي أحد لا يصدق الأطروحة الرسمية. عند ما تكون المسألة لا يصدقها أحد يصبح التمسك بها عديم الجدوى، بل حوشب أو ثقل إضافي معطِل يجره الإنسان. أما سجن برام ولد الداه ولد اعبيد فتم أخيرا، وهو غريب مثل ما سبقه. اعتقل عشية انتخابات عامة هو مرشح فيها. كما أنه لم يحكم عليه فتم انتخابه كنائب في البرلمان كما كان متوقعا. إذاً هو الآن برلماني جديد في السجن وهو مؤشر سيئ للغاية بالنسبة لديمقراطية ما زالت تبحث عن التزكية. السبب الحقيقي الكامن وراء سجن برام لا يعرفه أحد.
فهل سببه تعارض طبائع أم مجرد إصرار على الخطإ وتصلب في الرأي؟ هل برام يفسد لعبة أم مشروعا غير معلن؟ لم يبق للجميع إلا التكهنات في موضوع يرجع إلى "حاجة في نفس يعقوب".
بعد التعديل الدستوري الجبري، رد السكان بسخرية رفيعة الذوق. عندما شُرع في الانتساب للحزب الحاكم، فانتسب إليه مليون ومائتا ألف مواطن بالغ يحملون بطاقات تعريفهم المؤمنة، في الوقت الذي يهاجم فيه النظام بشكل شبه جماعي بكلام مؤذٍ ومُحقر. كما أن السخرية لم تفهم بل فهمت على عكس معناها - على أنها برهان ساطع على الشعبية - توجه النظام، على دق الطبول ونبرة الحماسة، للاقتراع يوم فاتح سبتمبر 2018، من أجل تعيين برلمان ومجالس بلدية وجهوية.
وبهذه المناسبة أوضح الشعب بسخرية أكثر وقاحة فعلته الأولى: فقط حوالي ثمُن المنتسبين إلى الحزب الحاكم صوتوا له، وهذا الثُمن متكون أساسا من مناصري المرشحين الشخصيين.
السخرية لم تتوقف عند هذا الحد لأنه ليس هناك أحد يريد قراءة الرسالة المكتوبة بخط مدقة المهراس.
في المهرجان الافتتاحي والمهرجان الختامي لحملة الحزب الحاكم في نواكشوط الإقبال كان يفوق مجموع الأصوات التي حصل عليها هذا الحزب في مجموع الولايات بما فيها نواكشوط.
يجب الاعتراف أن فهم هذا الوضع غير سهل. فقط التجارب الماضية هي التي بوسعها أن تنيرنا.
هناك قاعدة: في بلد تدور فيه كل الأمور بما فيها الأعمال حول الدولة، والعاطلون لا يمكن حصرهم، و"الأذكياء" كثيرون، بلد الشفافية فيه نادرة، بل ومذمومة، هي أن المصفقين والسابحين في المياه العكرة، الذين يعدون بالآلاف، لا يمسكون برأس الموكب الرسمي إلا في وقت متأخر، عندما يكون الوضع صعبا وبعد ما درسوا بعناية فائقة عقلية وميول وشخصية ضحيتهم. في هذه المرحلة ينقضون عليه ويحولونه لعبة بأيديهم. بالمقابل المسؤول السامي تحصل عنده القناعة أنه إذا تخلص من هذه الرفقة سيصبح معزولا، متوحدا، وبالعكس فإن معايشة جماعة مبتسمة على الدوام، حفية بإفراط، تداعب بكلام لطيف ينفذ إلى الحواس باستمرار، وإذا تطلب الأمر فإن أياديها سائلة بالهدايا الثمينة، لا شك أن جوا كهذا مريح لذيذ وجذاب.
إن المختار ولد داداه، نفسه، وهو رجل متزن وله تجربة واسعة في العلاقات البشرية، اقتيد إلى مأزق، ناهيك عن من خلفوه في المنصب.
عندما يفلس معبودها بالأمس فان هذه الطبقة التي يصعب تمييزها وتصف نفسها بالسياسية، تنصرف بلباقة وتفقد وكأنها لم توجد. لا أحد من رؤسائنا المبجلين - وكانوا جميعا مبجلين إلى آخر لحظة - استحق أبسط تضامن، أبسط مظاهرة مساندة، بعد سقوطه.
في المسلسل الآني، المخالف للعقل، يعتبر رجل الشارع بقوة أن قادتنا يعتمدون أساسا، في المرحلة الحالية من أجل كسر رقبة الدستور، من جديد، والتورط، دون منطق وبغياب أدنى سند حقيقي، في مأمورية ثالثة، أو مأمورية مقنعة، يعتبر رجل الشارع أنهم يعتمدون على دولة أجنبية حامية، مقابل التدخل العسكري في مالي.
إنها ستكون زيادة في المصيبة. ليست هناك قوة أجنبية، في عالم اليوم، بمقدورها أن تفرض نظاما ضد إرادة شعبه، وإذا حاولت فإنها ستفقد نهائيا مصداقيتها.
وإضافة إلى ذلك فإن نظاما معزولا إلى درجة البحث عن سند أجنبي سيُرفض من الجميع ويفقد شرعيته، ويجعل آخر الوطنيين الصامتين على مضض، يقف ضده، ناهيك عن أولئك الذين نفضوا أيديهم من النظام ولكنهم ما زالوا متعلقين بتلمس حل مُشَرف للبلد.
إن الزيغ ورفض الواقع هو مصدر الاستياء والشعور بالحرمان، وهو الذي يقود الناس للتطرف والعصيان والإرهاب. كل ما يتكشف يوما بعد يوم لا يبعث على التفاؤل ويجب أن نعترف أن البلد أصبح يشبه موكبا يسير بسرعة فائقة في الظلام.
لا, بدلا من المغامرة، ما زال بوسعنا أن نعود إلى الرشد. ليس من حقنا أن نفسد المستقبل، واجبنا أن نبنيه. ما زال بوسعنا أن ننزع فتيل الأزمة، أزمة لن يستفيد منها أحد، وهي تشبه القنبلة الموقوتة. بإمكاننا أن نصنع السلم بدلا من الحرب. أي سلم؟ السلم الداخلي الذي هو غاية في حد ذاته، والذي يُمَكن - إذا تطلب الأمر - من خوض الحرب.
السلم يبدأ بالتهدئة. الناس ينحنون بطيبة خاطر لمن يتواضع ويخفف من غروره.
التهدئة الوحيدة المقنعة وذات المعنى والتي بوسعها أن تغير المعطيات الحالية، هي أن نتوجه بحزم، بكل نزاهة وبكل صدق، نحو التناوب الديمقراطي، في منظور الانتخابات الرئاسية المقبلة. إنه موقف لا بديل عنه وهو المنقذ للجميع. عند ذلك سيحصل إجماع وطني غاب منذ زمن طويل، ويشعر الجميع بالفخر أن المصلحة العامة تصدرت جميع المصالح. لن يكون هناك من بإمكانه أن يعترض على هذا التوجه، دون أن يستحق مصير المنبوذ والمعزول.
عندما يتوقف النظام عن التمسك بالسلطة بعد الفترة الدستورية فإنه سيبقى بدون أعداء، بدون فرض مرشح فإن اعتباره سيزداد. عندما لا يظهر بالبحث عن مصالح أنانية فإن تقديره سيزداد. عندما يرتفع في العلو من أجل ضمان وتسهيل ما يريده الشعب فقط، فإنه سيرقى إلى مستوى العزة والتقدير من الجميع.
بدون هذا فإن الجميع سيعترف أنه لم يبق شيء يُعمل، وأننا نسير في طريق مسدود. وأننا بكل أسف أصبحنا مرغمين على تبني خلاصة الفيلسوف ميشيل أنفري الذي سُئل أخيرا ما هي النصائح التي يمكن تقديمها إلى شباب اليوم؟ فرد كما يلي " الباخرة تغرق. عليكم أن تحافظوا على وقاركم. موتوا وأنتم واقفون".
print google_translate