إنني موجود خارج البلاد منذ فترة، أتابع، يوميا، أخبار البلاد: مشاغلنا، المواضيع المتداولة في مجال تفكيرنا ونقاشاتنا. إن الانطباع الذي أخرج به يتمثل في أننا نجانب الأهم. الكل يركز على حصيلة الرئيس بشكل عقيم، بين من يعتقدون أنه بنى كل شيء، ومن يعتقدون أنه هدم كل شيء.. بين من يعتقدون أن عليه الترشح لمأمورية ثالثة، ومن يعتقدون أنه لا يمكنه الترشح لمأمورية ثالثة.. وكان البعض قد ذهب، مؤخرا، إلى حد نقاش إمكانية أن يتقدم الرئيس للانتخابات خلال الـ 5 أو الـ 10 سنوات القادمة. ويقال لنا، طوال اليوم، أننا سنتمزق وسننفجر بين الفينة والأخرى. إلى متى؟ كما استوعبتْ بعضُ الدول، فإن ما يتوجب اليوم هو أن ننكبّ، من خلال تشخيص نقدي لمكامن قوة وضعف اقتصادنا، على تصور استراتيجية تنموية اقتصادية واجتماعية جديدة تنحو إلى تلبية الحاجات المستعجلة التي تتطلب التكفل الفوري بالطبقات الاجتماعية الهشة (الحالات الصحية المستعجلة، الولوج إلى الكهرباء والتعليم والماء الشروب، فك العزلة عن المناطق النائية). استراتيجية تهدف، فضلا عن ذلك، إلى الانتقال البنيوي للاقتصاد ليتوقف عن أن يظل فقط منتجا للمواد الأولية، وأن نباشر تقييم سلسلة منتوجاتنا من خلال وضع مصانع تقوم بالصناعات التحويلية ميدانيا، ما سيمكننا من أن نكون قادرين على تحديد أسعار منتجاتنا (إنها مشكلة إفريقيا التي تملك كل شيء ولا تحوّل أي شيء صناعيا، بينما لا تمتلك آسيا أي شيء وتحول كل شيء صناعيا). إن علينا أن ننكبّ على معرفة كيف نحصل على وظائف لشبابنا، وكيف نحسّن ظروف حياة مواطنينا، وننكبّ على معرفة كيف نمول تنميتنا، علما بأن المهمة، التي تستدعي رؤية شاملة، أبعد من أن تكون بسيطة. إن التنمية تمول بالادخار وبالاستثمارات الأجنبية المباشرة وبالعون الاقتصادي العمومي، بيد أنه من المجدي أن نعرف أن: * الادخار أضعف من أن يتمكن من تمويل تنميتنا، *والاستثمارات الأجنبية المباشرة ضعيفة في بلادنا وغالبا ما لا تكون لها مردودية في مجال التوظيف والتنمية، وكثيرا ما تكون موجهة لاستغلال مواردنا. *أما الديون فتمثل طريقا مسدودا، فمقابل كل دولار نحصل عليه من العون العمومي للتنمية نقدم خمسة دولارات لصالح سداد الديون. إننا نقدم أكثر مما نستدين، وسيظل الطريق بهذا الخصوص مسدودا حتى ولو ضاعفنا الاستدانة. بمعنى آخر: كيف نربح المعركة ضد التخلف والبؤس؟ كيف نواجه تحديات التنمية؟ كيف نجعل العولمة لصالحنا؟.. كيف نعمل على جعل موريتانيا تقف شامخة بمجهوداتها الذاتية ولمصلحتها الخاصة؟.. لقد أطلقت المملكة المغربية أول قطار إفريقية ذي سرعة فائقة، وبنت أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم، ويعد جسر الكابل بالرباط أكبر جسر بإفريقيا والعالم العربي، أما ملعب الدار البيضاء الذي يتسع لـ 120 ألف متفرج فهو أكبر ملعب في عالم كرة القدم، ويعتبر ميناء طنجه المتوسطي أكبر ميناء حاويات بإفريقيا، كما تعتبر المملكة المغربية أكبر منتج للسيارات بإفريقيا، وقد أصبحت إفران ثاني أنظف مدينة في العالم، بينما يعتبر مركز مروكو مال أكبر مركز تجاري في إفريقيا. لقد أصبحت روندا، بعد الإبادات العرقية سنة 94، قوة اقتصادية في القارة الإفريقية من خلال اقتصاد قائم على الخدمات والمعارف. إنها اليوم بطلة الاستثمارات الأجنبية بإفريقيا، وهي ثاني دولة إفريقية في تصنيف دوينغ بيزنيس لسهولة ممارسة أنشطة الأعمال في الاستثمارات الأجنبية المباشرة بزيادة مطردة لتعزيز عرى الاقتصاد وإعادة بناء البلاد. إلى متى؟ إننا نمثل عددا قليلا من سكان بلاد تزخر بالموارد، ويقول الخبراء ان السينغال وموريتانيا مقدمتان على استغلال أحد أكبر احتياطات الغاز في العالم. ويعتبر البعض أنهام تتجاوزان احتياطات قطر وروسيا مجتمعتين، وأن ذلك ما جعلهما محط أنظار الولايات المتحدة وأوربا اللتين سيكون بمقدورهما الحصول، عبر خطوط الأنابيب، على مصدر للطاقة قريب من حيث المسافة وسهل المنال. متى نسخـّـر أنفسنا للأهم؟ مع العلم أن الموارد بحد ذاتها لا تكفي، لكن يجب أن نعرف كيف نستغلها بشكل مفيد وعقلاني. معدن التولتان، هذه الثروة الرائعة التي تنام تحت أقدام الفقراء الكونغوليين (80% من الاحتياطات المعروفة في العالم)، يحظى بتقدير كبير من لدن الصناعات الغربية المتقدمة بسبب استخدامه أساسا في مكثفات الكومبيوتر والهواتف المحمولة والصواريخ والطائرات. ومعروف أن فينزويلا تتقدم السعودية في مجال الإنتاج النفطي، ومع ذلك فإن كل كاشفاتها الضوئية لسنة 2018 توجد على المستوى الأحمر. بالنسبة لمن يقولون بأنه محكوم علينا بالتخلف بسبب ماضينا (الاستعمار، الرق، إلخ)، نقول لهم بأن النمور الآسيوية وتجمع روسيا البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا وصلوا إلى مستوى نسبي من التقدم مع كل هذه الأبعاد التاريخية المؤلمة. دون أن ننسى أن الانبعاث الاقتصادي لا يتعلق فقط بتصور وتطبيق مشاريع، لكن أيضا وأساسا فهو عادات يعاد النظر فيها وممارسات يتم تغييرها ومواقف جديدة يتم اتخاذها. يقول بول كاغامي ان "التقدم يبدأ بتغيير العقليات متبوعا بالعمل". لا يمكننا أن نتقدم هكذا، بل لابد من أن نسعى إلى ذلك ونستعد له وننطلق في العمل. إلى متى يتواصل نقاشنا العقيم المغذي لساحتنا منذ 10 سنوات: عليه أن يغادر، يجب أن لا يغادر، المأمورية الثالثة، لا مأمورية ثالثة، بنى كل شيء، هدم كل شيء...؟. ألا يفسر ذلك ما نلاحظ من تطلع متنام لتغيير العالم، الفترة، المنهج، المقاربة، الرؤية، الأدوات، الخطاب، الآليات وحتى الرجال؟، نعم الرجال لأن الرجال، في المحصّلة، هم من يكرسون التغيير.