رحم الله محمد ولد يالي ..أكبر أخوة الوالدة ، جمعنا حب مُفرط للشاي و قد كان " براده" على الجَمر طوال مكوثه في المنزل ، تُخالط نَكهة كُؤوسه المُترَعة لذةً حَكاويه عن الحرب و كنت لا أَمَلُّ سَماعها .
محمد رحمه الله جندي شَاركَ في حَرب الصَّحراء ..كَان سائقا للقائد الملهم "اسويدات " ، يقول لي أنَّ "اسويدات" لم يَكن عند الجنود إنسانًا عاديًا ..يقول كُنّا ننظر إليه كبطل خَارق أو قديسٍ لا يَفنى ، في أكثر من مواجهة مع العَدو وحِين كنا نَختبئ خَلف الرُّبى و التّلال كان هو يَنهض غير عابئٍ بالرصاص لِيحثَّنا على المواجهة ..جَعلنا منظره فاردًا ذراعيه بين الرصاص المتطاير في المعركة نعتقد أنَّه لا يموت ! . لِذا حِين َأردته القذيفة فَجأة ...أصابنا الهَوس و الذُّعر الشديد ...أذكر أنني من خَوفي هَربت عن السيارة ما أوقعني في الأسر .
جِسم محمد رحمه الله مَليئٌ بالجراح و الخدوش من آثار التَّعذيب في مُعسكرات البوليزاريو .
أسأله مداعبًا بعد كل هذا الحديث : أمَا كان يَجب أن يكافئك الجيش بأن تكون سائقاً للرئيس ؟ ..فيجيب رحمه الله :" انا أصَّ بطروني أشبه من الرؤساء "..لكأنما يثير سؤالي في ذهنه مقارنة غير مستساغة ...يَترنح ،يغير وَضعيَّته ثم يكرر " ولد أختي ..بطروني انا محمد ولد محمد الشيخ ..أخير من الرؤساء ...ولا أكد اعود رئيس "..
عندي أنا المُراهق إذ ذاك و المُولع بمطالعة مقالات نقد الحكام و العسكر و الضباط ليس محمد ولد محمد الشيخ (الغزواني كما عرفته لاحقًا) إلا أحد أولئك العسكرين المتخمين البعيدين عن هموم عامة الجند ، وليس سائقه محمد المَفتون به حُبّا و إعجابا إلا جُنديا تربى على الوَلاء لقادته .
أسأله ؛ لماذا لن يكون قائدك رئيسا ...أليس بامكانه أن يقود انقلابا كَكل ضُباط الجيش ؟
لا يريد ...و لا يحب أن يكون رئيسا ...و يضيف الرجل يحبنا نحن العمال البسطاء و يعطف علينا ..رؤوف رحيم ، هل سَمعت برئيس رؤوف ؟.
على حين غرة خطف الموت السائق محمد رحمه الله على أثر مرض دام يومين ..كان القائد في الحج يومها ..وكان كل افراد أسرته يجوبون بأمر منه أروقة المستشفى قلقا على محمد ..و وجدتهم يقيمون " السلكة " و العزاء في بيت القائد حين وفاة الخال رحمه الله ..
لم تَنقطع صِلتهم بنا بوفاة السائق .فلسنوات تالية ظَلّت خيرات "البطرون" و أفعاله شاهدة على صدق مقولة المَرحوم بأنه يحب الضعاف و يعطف عليهم وكان في افعاله خير دليل عِيان لي على ان ليس كل الضباط و العساكر كما قرأت عنهم في المقالات و الصحف. ظلت المؤونة الشهرية الكاملة تصل أيتام السائق مع مبلغ نقدي هدية من "القائد" نهاية كل شهر ..و بعد سنوات غادرت الأرملة و أيتامها العاصمة إلى الداخل دون اشعار "القائد" و حين علم حول الأعطية لوالدي الفقيد !.
مع مرور الزمن تداول الناس أخبار ترشيح قائد "محمد" للرئاسة ..و كنت أرى في عزوفه عنها صدق المرحوم و معرفته بالرجل و أُمَنّي النفس أن يصل إلى الحكم ذاك الجنرال الذي عرف قلبه العطف على الضعفاء و حبهم و أقول : ليته يقبل .
من صفحة الأستاذ محمد الأمين ولد الداه
نوافذ