الدموع الحارة التي سالت من عيني منصف المرزوقي حزنا على رحيل محمد مرسي اختصرت كل شيء. فذلك المشهد الذي وثقته “الجزيرة مباشر”، تجاوز المشاعر الإنسانية التلقائية لرجل كان على رأس هرم السلطة في تونس، إزاء رجل آخر كان أول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر، فانقلب عليه العسكر؛ ليحمل المشهد المذكور دلالات ذات أبعاد سياسية وحضارية وحقوقية.
حين طُـلِـبَ من منصف المرزوقي أن يرثي الرئيس المغدور، أجاب: تقبّلك الله في مثواك الأخير، وبارك في كل ما أعطيته للشعب المصري، بارك الله في صبرك، وعفوًا وغفرانًا لأننا لم نستطع أن نُنجدك أكثر مما أنجدناك. أتصوّر كل العذاب وكل الآلام التي مررتَ بها طيلة هذه السنوات. ليغفر الله لك وليغفر لنا جميعا.” ثم شرع في بكاء حار لأكثر من دقيقة، رغم محاولة صحافي “الجزيرة” الذي كان يحاوره تهدئته والتخفيف عنه، من خلال الاعتذار والأسف وطلب المسامحة عن طرح ذلك السؤال.
إن دموع المرزوقي دليل ـ أولا ـ على فداحة الظلم الذي تعرض له الدكتور محمد مرسي طيلة فترة اعتقاله ومحاكمته الصورية بتهم باطلة، تثبت أن القضاء المصري خاضع لتوجيهات العسكر وحريص على إرضاء نزوات الدكتاتور عبد الفتاح السيسي. وهي أيضا دليل على منهج الموت التدريجي البطيء الذي كان يتعرض له مرسي وهو في الزنزانة وأيضا خلال المثول أمام القاضي المغلوب على أمره.
كما أن تلك الدموع إدانة للجحود الذي لاقاه مرسي من طرف جل العرب، سياسيين ومثقفين وحقوقيين وفاعلين في المجتمع المدني… طيلة سجنه وكذلك بعد وفاته بتلك الطريقة الغريبة التي تثير الشكوك وعلامات الاستفهام، حول مدى تورط نظام السيسي بمؤسساته المختلفة ـ الأمنية والعسكرية والقضائية والطبية وغيرها ـ في “جريمة” موت مرسي، إما تعمدا أو إهمالا أو حربا نفسية… وهذه الافتراضات لم تأت من عندنا أو من وحي خيالنا، بل أوردتها وسائل إعلام غربية، حين لفتت الانتباه إلى سرعة دفن جثمان الرئيس المصري الراحل تحت جنح الظلام، ووسط حراسة أمنية مشددة استبعدت أي موكب جنائزي، مما يؤشر على أن ظروف الاعتقال كانت أشبه بالتعذيب.
ولست أدري، هل ستأتي التلفزيونات المصرية، الرسمية والخاصة، و”أراجوزاتها” المثيرة للقرف، لتقول لنا إن دموع المفكر والسياسي التونسي منصف المرزوقي هي دليل على انتمائه إلى جماعة “الإخوان المسلمين”؟ والكل يعلم أن الرجل علماني وحداثي وضد التطرف والإرهاب.
وهل ستطلق التهمة نفسها على وسائل الإعلام الغربية، لأنها تطالب بفتح تحقيق نزيه في ظروف موت محمد مرسي؟ وأيضا على المتحدث الرسمي باسم الأمم المتحدة الذي قدم تعازيه في وفاة مرسي؟
وأيضا… هل ستنعت “الأراجوزات” المصرية حكومة ألمانيا بدعم “الإخوان”، لكونها وجهت رسالة تعزية إلى المواطنين المصريين؟ في وقت صمتت فيه كل الحكومات العربية، باستثناء قطر!
الترحم والإرهاب!
لم تعد القنوات المصرية الرسمية والخاصة تمتلك إعلاميين محترفين أكفاء وذوي مواقف مشرفة، بعدما صار نجومها أشخاص لا يتقنون سوى الصراخ والزعيق، وإطلاق التهم على عواهنها، والتحريض على كراهية كل من يعارض النظام المصري الحالي ويشجب ممارساته التي تتنافى مع المبادئ الإنسانية الكونية.
ذلك ديدن أحمد موسى الذي لم يجد مَن يهاجم أخيرا غير لاعب الكرة السابق محمد أبوتريكة، لا لشيء سوى لكونه نشر تغريدة يترحم فيها على الرئيس المصري الراحل محمد مرسي. وجاء الجواب سريعا ردا على هذيان موسى، من خلال الموقف المشرف الذي أعلن عنه نجم قنوات “بي إن سبورت” المعلق أحمد دراجي، حيث تساءل: هل يمكن أن يكون في مصر شخص يدعو إلى الحقد والكراهية ضد الأحياء والأموات؟ فلم يجد أحمد موسى سوى أن يشتم في جزائرية دراجي وفي مهنته كمعلق رياضي، مطالبا إياه بالابتعاد عن شؤون مصر.
لننتظر كذلك “فتوى” أحمد موسى في شأن الموقف النبيل الذي أبان عنه برلمانيون تونسيون، حين أصروا على قراءة الفاتحة ترحما على محمد مرسي، رغم احتجاج نائبة برلمانية وصفت الموقف بتكريس التطرف والإرهاب والانتماء لجماعة الإخوان المسلمين. وبثت قناة “بي بي سي” مشهد برلمانيات وبرلمانيين تونسيين يقرأون الفاتحة، بينما تنسحب بعض البرلمانيات الأخريات، لا سيما بعدما أكد رئيس الجلسة أن القراءة ستكون لاعتبار إنساني فقط.
أما ما أثار سخرية رواد شبكات التواصل الاجتماعي أكثر، فهو سلوك التلفزيونات المصرية، حين بثت خبر وفاة الرئيس المصري السابق الدكتور محمد مرسي، بطريقة جافة تفتقر إلى أي ذوق ومهنية، وذلك بتفادي ذكر صفته السياسية ولقبه العلمي، مفاجئة جمهور المشاهدين بإبراز كنية أخرى لمحمد مرسي هي “العياط”، لحاجة في نفس مسؤولي تلك التلفزيونات ومن يحركونهم.
ورغم هذا السلوك المنحط والوضيع، فإن ما خشي منه النظام الدكتاتوري الفاسد في مصر قد حصل: ها هو العالم يتحدث عن محمد مرسي أكثر من ذي قبل، وهاهم الكثيرون (ليبراليون وعلمانيون ويساريون واشتراكيون وغيرهم) يتعاطفون معه من منطلق إنساني وحقوقي بحت، بعيدا عن أية خلفية إيديولوجية. فهل يقوى الانقلابي عبد الفتاح السيسي على مواجهة هذا المد الإنساني والحقوقي الجارف؟
بين تحفظ العثماني وطلاقة بن كيران!
الملاحظ أن عدوى “استنكار” الترحم على محمد مرسي وصلت إلى المغرب