تمر الأمة الإسلامية بمرحلة استثنائية في تاريخ ما بعد حكام الطوائف الذين يعيدون التاريخ القهقرى إلى حقبة طوائف الأندلس، أسماء معتصم فيها ومعتضد تحكي انتفاخا صولة الأسد، ولعل أبرز ما يميز الحقبة الماثلة من تاريخ الأمة، هو خروج أنظمة وزعامات من صميم قلب الأمة ودائرة التأثير فيها إلى صميم دائرة الخطر عليها والتهديد الدائم لها، وذلك ضرب من تحول المواقف والمواقع غريب ومؤلم.
وأبرز مثال على ذلك اليوم، هو أنظمة مصر الكنانة وحكام الحجاز وبعض أنظمة الجزيرة العربية الأخرى، فقد خرجت من معادلة الأمة وأضحت جزءا من خطط العدو وسيفا مسلطا على الثوابت وعلى طموحات الشعوب ليس في الحرية والعدالة والنماء فحسب وإنما في مجرد الحياة والتدين، وفي مواجهة هذه الأزمة الماحقة بات من الواجب على الأمة أن تعيد بناء مراكز قوتها، وتعيد توزيع منصاتها الحضارية والسياسية، حماية للجسد الواحد، واستعادة للدور، يتطلب الأمر سعيا حثيثا من الغيورين على الأمة لإيجاد البدائل الممكنة للحفاظ على الكينونة، إذ لا يمكن بقاء أمة تدار بحكام يتبارون في تلبية رغبات منافسيها وأعدائها حضاريا وإستراتيجيا.
دولا مثل إندونيسيا وماليزيا بكثافتها البشرية وما تحوز من استقرار ونماء مع انتماء للأمة سلم من فوبيا الرعب من كل ما هو إسلامي، بل جعل تلك الدول تحتمي بالخلفية الإسلامية جاعلة إياها محفزا على النماء والبناء
إن المتتبع لواقعنا يدرك صعوبة ما نحن فيه من هوان وتداع للثوابت وتحطم للقلاع الفكرية والدينية والاستسلام التام للخصم وتركه يحدد لنا الدور الذي يريد!، لقد بلغ السيل الزبى وتجاوز الأمر الحد وما عاد بالإمكان تجاهل حجم الانهيارات الأخلاقية والدينية لبعض الدول الأساسية والنخب المؤثرة، في هذا السياق يحسن بنا الانتباه إلى أن المسؤولية تقع على الدول التي ما تزال تحتفظ ببعد وطني وإمكانيات بشرية ومادية وانتماء إلى خصوصياتنا الثقافية والسياسية ودفاع عن مصالح شعوبنا ولم تتنكر بعد للخريطة التي تسكن، وإلى شعوبها التي إليها تنتمي.
فعلى هذه الدول اليوم أن تتزحزح من موقع المتفرج وأن تدرك أن القدر هيأ لها دورا تاريخيا لم يكن متاحا في سالف التجاذبات، (كلمة رئيس وزراء باكستان في القمة مثالا) فتلاشي الدور المصري الذي كان محوريا في المنطقة والعالم والذي تبعه الهروب الكبير لأهم دول الجزيرة العربية، نحو إرادة الدول المعادية للأمة المنافسة لنا والتي تعتبرنا سوقا في أفضل الحالات.. كل ذلك ترك فراغا ضخما وثغرة يجب سدها، هذه الوضعية الاستثنائية تلقي بالمسؤولية على دول أخرى وخصوصا التكتلات البشرية المهمة في العالم الإسلامي في شرق الخريطة الإسلامية وغربها ووسطها؛ فهي اليوم مدعوة إلى الشعور بالدور القيادي الذي عليها أن تؤديه؛ ذلك أن هذه الدول تحوز قدرا لا بأس به من الشرعية الشعبية التي هي أهم سند يتوكأ عليه الحاكم ويقوى به المفاوض.
إن دولا مثل إندونيسيا وماليزيا بكثافتها البشرية وما تحوز من استقرار ونماء مع انتماء للأمة سلم من فوبيا الرعب من كل ما هو إسلامي، بل جعل تلك الدول تحتمي بالخلفية الإسلامية جاعلة إياها محفزا على النماء والبناء في محيط صعب يعج بالأفكار والديانات. كما أن دولا في المغرب العربي مثل المملكة المغربية والجزائر مدعوة هي الأخرى رغم البعد الجغرافي إلى لعب دور تعضده مميزات هذه الدول وقدرتها على إدارة علاقة مع المخالف من أجل مصلحة شعوبنا.
وبذات القدر إن لم يكن أكثر فإن الدور الذي ينتظر الدول الوسط خصوصا تركيا التي ترك لها الهروب الكبير ساحة الزعامة، ولعلها بعد حسم المستقبل السياسي بإذن الله والانطلاق نحو المستقبل تنتبه إلى الإمكانيات الضخمة التي تقدر على تجييشها لمصلحة العالم الإسلامي، ولو سلمت إيران من أسر الطائفية والنظر من ثقبها الضيق وقبلت التوقف عن استهداف السواد الأعظم من المسلمين باعتبارهم نواصب! تسعى لتشييعهم والعمل على تحطيم كل نهضة فيهم! لكان من إيران سند يمكن العمل معه بتحالف يخطط لدفع "الغارة" على العالم الإسلامي، ذلك أن إيران تملك مقومات جغرافية ومادية وبشرية مهمة للمسلمين إن هي قبلت التعامل معهم كمسلمين.
الرسالة التي تبعثها جراح الأمة اليوم، واضحة جدا ومفادها أن القمم المتراكمة ما عادت تجدي نفعا
وقد راكمت من التجارب في المقاومة من أجل البقاء ما يجعلها مؤهلة لو وُفقت للتخلص من منظار الطائفية، لأن تكون ركنا ركينا في أي خطة للدفاع عن العالم الإسلامي وثوابته خصوصا أنها مستهدفة من نفس الأعداء وتدفع ذات الثمن في الانتماء، ولإيران صفحة حسنة يمكن أن تقيس عليها إن أرادت وهي الدعم المميز للمقاومة في غزة، ولعل الخبر المذاع هذه الأيام من عرض إيران اتفاق عدم اعتداء بينها وبين دول الخليج المجاورة يصب في المطلوب لو وجد في الجهة المقابلة حكومات تمتلك قرارها وتقرر لمصلحة شعوبه. ولو أشفعت العرض بآخر للقوى الحية في المجتمع الاسلامي بميثاق شرف لا يبغي فيه بعضنا على بعض لكان ذلك أحكم وأتم، وهو ذات السلوك المتعقل الذي نهجه رئيس كوريا الجنوبية عندما تعرض للابتزار من سمسار المغامرات ترامب حيث رفع الهاتف على جاره الشمالي وعقدا قمة هيأت لنزع الفتيل الذي تبتز به القوة الأميركية الغشومة.
كما أن القارة الأفريقية السمراء بكثرتها الإسلامية والنفس الديمقراطي الذي يعطي لحكامها من القوة والسند الشعبي ما يجعلها هي الأخرى مهيأة لو وجدت من يحسن تفعيل العلاقة، ويستغل القواسم المشتركة الكثيرة معها. كما أن هنالك دولا تتمتع بفاعلية ونفس من العافية والتفاعل مع شعوبها وعدم العداء لأمتها من الممكن أن تساعد بطريقتها مثل قطر والكويت وعمان مع تونس.
كل هذه الدول مدعوة إلى للتفكير بعمق نيابة عن شعوبها التي تشعر بمرارة الخذلان والاستسلام للأعداء! ولا بد في ذلك من وضع خطط تضع حدا للانهيار غير المسبوق في ممانعتنا، وأن تستفيد تلك الدول من أجواء التحرر الذي يعم العالم من شرقه إلى غربه؛ فلأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية نجد التململ الأروبي يصل حد التنديد بالسياسات الأميريكية والعمل عكس قرارات البيت الأبيض، وهو ما أصبح واضحا من تصرف الاتحاد الأوربي والصين واليابان وليست الهند من ذلك ببعيد، فمنطق الأشياء يقول إنها قادمة لركب الممانعة أمام الغطرسة الصهيو- أميركية؛ نظرا لمؤشرات النمو المتزايد والقدرات البشرية والمادية الصاعدة من دون استئذان.
أمام كذلك لن تظل الغطرسة الأميركية في صلفها بل إنها ستنكفئ لا محالة إن وجدت أمة تقاوم وتستخدم بتخطيط أوراق قوتها البعثرة، إن الرسالة التي تبعثها جراح الأمة اليوم، واضحة جدا ومفادها أن القمم المتراكمة ما عادت تجدي نفعا، وأن كثيرا من الجاثمين على البساط العربي والإسلامي هم أقرب إلى أعداء الأمة، وأن هذا البساط يهتز تحت أقدامهم الرخوة، ويحتاج فقط إلى من يسحبه من تحت أرجلهم، وهو دور لا بد أن تقوم به الأمة وبأشكال متعددة ومتنوعة، فمن ينهض لهذه المهمة.. فقد آن أوانها وحان حولها ونصابها.