بحث استقصائي يحاول رصد التأثيرات المتبادلة بين الطفرات الإعلامية في العالم العربي و انتشار العنف و الفوضى في هذه المنطقة من العالم ’ و كيف ساهمت قناة الجزيرة في تعويم مفهوم الإرهاب و إضفاء صفة الشرعية عليه ’ بل و جلب التأييد له على نطاق واسع.
بداية ؛ يمكن القول بأنه ليس بمقدور العالم الغربي و مؤسساته البحثية فهم التأثيرات المتعددة للمسألة الإعلامية و قدرتها على تشكيل العقل العربي , لقد أصبح من الواضح أن هناك قصورا أو تقصيرا لدى المؤسسات الغربية في تقدير مدى سطوة الكلام وتحكمه في عواطف هذه الشعوب وهيمنته على أنماط وعيها المختلفة , و لعل الوصف الذي أنتجته الثقافة العربية لهذا المفهوم هو الأكثر مطابقة للواقع حيث يُطلق عليه : " سحر البيان أو سحر الكلام ".
و بهذا الصدد يُمكن مقارنة النقص الملحوظ لهذا الجانب في الدراسات والبحوث الغربية حاليا, بما كان سائدا في الدراسات الاستشراقية في الحقب الماضية , فحين أنتجت آلاف البحوث عن العوامل السياسية و الاقتصادية التي ساعدت علي انتشار ظاهرة الإرهاب ، تم أخذ دور الإعلام بالكثير من الخفة والسطحية , وهنا سنبين كيف أن الإعلام لعبا دورا أكبر مما يعتقده الجميع في انتشار الإرهاب , بل إن وسيلة إعلامية محددة كانت شريكة حقيقية في الإرهاب وصناعته.
بدأت قناة الجزيرة القطرية بثها في الأول من نوفمبر 1996 و لما تكن "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" قد تشكلت بعد , ويعيش المكونيْن الرئيسييْن لها أوقانا صعبة , فأسامة بن لادن يعيش منفيا في السودان مع زمرة من المقاتلين السابقين في أفغانستان, سُحبت منه جنسية المملكة العربية السعودية وتبرأت منه عائلته ,أما جماعة الجهاد الإسلامي المصرية فتكاد تختفي, حيث دقت المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس الوزراء المصري عاطف صدقي أخر مسمار في التعاطف الشعبي معها وتمكنت الحكومة من الزج بكل كوادرها في السجن . دون أن نقول أن مجموعة أسامة بن لادن كانت فاقدة للتأثير, فقد نفذت تفجيرات الخبر قبل ذلك بعدة أشهر ضد عسكريين أمريكيين في المملكة. بدأت قناة الجزيرة بثها وشكلت انطلاقتها نقلة نوعية في الإعلام العربي حيث قدمت للكثيرين ما كانوا يحتاجونه وهو هيئة الإذاعة البريطانية مشاهدة.
وقد ركزت الجزيرة مع بدايتها علي قضية أساسية كان أسامة بن لادن قد تبناها وبني عليها خطابا تحريضيا وشكلت أهم أدبيات خطاباته في تلك الفترة وهي وجود القواعد الأمريكية الموجودة في دول الخليج أو ما أسماه الوجود الصليبي في جزيرة العرب .
شنت القناة حملة إعلامية مركزة علي وجود القواعد الأمريكية في دول الخليج العربي وكانت قصة القواعد وخطرها وجبة يومية علي شاشة القناة, التقارير والبرامج الحوارية المكثفة عن الاستعمار الأمريكي الجديد وخيانة دول خليجية محددة مثل الكويت والسعودية (القاعدة التي كانت في السعودية انتقلت فيما بعد إلي قطر) وقد شارك في تلك الحملة وبالكثير من الحماس قوميون وإسلاميون علي حد السواء فالموضوع مغري وتسهل فيه المزايدة مع ملاحظة حضور لافت ل "جماعة لندن" وهم منظرو الفكر الجهادي في أوروبا أبو حمزة المصري وأبو قتادة و هاني السباعي وياسر السري والذين كانوا ضيوفا دائمين علي القناة .
بعد سنة من ذلك أعلن أسامة بن لادن وأيمن الظواهري جبهتهم من باكستان ولا يزال الغموض يكتنف كيفية تغيير اسم تنظيمهم إلي تنظيم القاعدة فيما نري أن ذلك اكبر دليل علي حالة التأثير المتبادل بين الجماعات الإرهابية والإعلام فمن شبه المؤكد أن وسائل الإعلام هي من سمتهم بالقاعدة قبل أن يتبنوا هم الاسم ويتباهوا به .
قدمت الجزيرة أسامة بن لادن نموذجا فريدا لثري سعودي ترك رفاه بلاده وجلس في الجبال لإعلاء كلمة الله وتم التنويه به في كل مرة –مع الكثير من المبالغة- بالمليونير السعودي الذي كان بإمكانه أن يمتلك طائرة خاصة وعدة قصور في أرجاء العالم لكنه اختار أن يعيش فقيرا لنصرة الإسلام والمسلمين, واعتمدت القناة صورة أسامه بن لادن وهو يضع الكلاشنكوف علي فخذه كبرومو رئيسي للقناة الأكثر مشاهدة في العالم العربي , ولا أحد بإمكانه أن يعبر عن مدي تأثير تلك البروبغندا في نهاية التسعينات علي الشباب العربي حيث عاشت القاعدة ربيعها, فقد أعطتها الجزيرة ما تحتاجه بالضبط وتم اكتتاب ألاف الشباب المبهورين بأسطورة بن لادن لا بفكره إن كان له فكر, ومع كل عملية للقاعدة كانت الجزيرة تحولها إلي نصر عظيم وتقدم القناة جيشا من المحللين يتبارون في التبرير ومهما يكن الضحية سواء كان أوروبيا أو إفريقيا أو عربيا فلابد انه ارتكب بحق الإسلام والمسلمين ما يستحق أن يعاقبه عليه فرسان المرحلة الذين ليسوا إلا مجاهدي تنظيم القاعدة, قدم الجميع أدوارهم الإعلامية المطلوبة أبو حمزة المصري صاحب اليدين الحديديتين مثالا للإرادة وكسر كل ما يعيق المجاهدين ,عبد الباري عطوان قدم دور الصحفي العلماني المنبهر حد النشوة بالشيخ السعودي الثائر, لتخرج الملحمة الأسطورية للقاعدة في أبهي صورها. أما أحداث الحدي عشر من سبتمبر فقد كانت تحصيل حاصل فبعد كل تلك الانتصارات "الإسلامية "بقتل عشرات المدنيين-لم تتطرق الجزيرة في أي من برامجها لأخلاقية قتل المدنيين-كان لابد من الجائزة الكبرى وهي قتل ألاف المدنيين دفعة واحدة ولتبرير ذلك يكفي أن تقول أنهم أمريكيون.
مثلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ذروة "الإلهام " المتبادل بين تنظيم القاعدة و قناة الجزيرة , فقد كان الدافع الرئيسي لتدمير البرجين هو الضجة الاعلامية نفسها , وقد قال مفتي القاعدة السابق انه جلس مع بن لادن واخبره انه لا يجد مبررا شرعي لهذا العمل إلا أن الأخير اخبره أن الأمر قد تقرر, و ما لم يدركه مفتي القاعدة أن ما كان يهم بن لادن هو الانفجار الإعلامي للحدث وليس الحدث بذاته.
لم يخب ظن بن لادن فقد شكل الأمر زلزالا إعلاميا لم يحدث منذ انتهاء الحرب الإعلامية الثانية , وكانت الجزيرة - وقد تحولت حينها وبدون مبالغة إلي الراعي الرسمي لتنظيم القاعدة - في الموعد .
فبدل أن تلاحظ القناة إلي أي مدي وصل توحش هذا التنظيم أعلنت ومنذ اللحظات الأولي أن الفتح الإسلامي وصل الولايات المتحدة , و ظهر الصحفيون وعلي وجوههم كل مشاعر الفخر والفرح والاعتزاز فوجوه صحفيي الجزيرة تقول دائما أكثر من نشراتهم.
وبدأت العناوين الرنانة من قبيل أمريكا تحت النار وأمريكا تحت الهجوم , كما كانت القناة هي أول من سك مصطلح الغزوة قبل أن يعتمده التنظيم فيما بعد رغم الخطأ الاصطلاحي في استعماله, فمن المعلوم لدي كافة المسلمين أن أي عمل عسكري لا يشارك فيه النبي الكريم لا يكون غزوة ,لكن من يهتم لذلك في غمرة الحماس العارم.
مرت أيام من النشوة التي وزعتها الجزيرة علي العالم العربي قبل أن ترد الولايات المتحدة, فدكت بطائراتها أفغانستان علي رأس طالبان والقاعدة وطاردت قواتها الخاصة قادة القاعدة في جبال تورابورا وزجت بالمئات في غوانتنامو .
أما قناة الجزيرة فقد تلقت حصتها من تلك الحرب حين اعتقلت اسبانيا صحفيها الذي غطي الحرب , و الذي ظل يمثل خلال تلك الفترة ناطقا شبه رسمي لتنظيم القاعدة الإرهابي , و نقصد هنا الصحفي السوري الأصل تيسير علوني حيث وجه له الادعاء العام الاسباني تهمة التعاون مع القاعدة.
ولسوء حظ الجزيرة تم نقل أحداث المحاكمة علي الهواء مباشرة , وهو ما شكل صدمة لمشاهديها بسبب الأدلة القوية التي قدمها الادعاء الاسباني علي ارتباط علوني بالقاعدة . بدأ نجم القاعدة في الأفول لكن الجزيرة ظلت تبث فيها الحياة بأشرطة منتظمة لقادتها وترويج مستمر لموقعها الالكتروني الجديد "السحاب" , غير أن خطأ كارثيا ارتكبته الولايات المتحده أعطي القاعدة وقناة الجزيرة فرصة جديدة للحياة بل وللتطور.
غزت الولايات المتحدة العراق و قامت بتفكيك مؤسساته العسكرية والأمنية وأصبح نهبا للفوضى من كل اتجاه.
مرت الأيام الأولي بسلام ولم يحصل اقتتال أهلي كما كان متوقعا بفضل حكماء شيعة وسنة منهم علي السيستاني والشيخ احمد الكبيسي كما أن الطائفية بشكلها الحالي كانت دخيلة علي العراقيين , لكن الأمر لم يستمر طويلا.
بدأت قناة الجزيرة بالغمز من قناة الشيعة وتم ذكر ابن العلقمي أكثر من مرة في برامج القناة , قبل أن يتصاعد الأمر بشكل دراماتيكي , شكلت قطر هيئة علماء المسلمين علي عجل وتم طرد احمد الكبيسي من العراق, لتشن القناة حملة غير مسبوقة علي شيعة العراق وتم وصفهم بكل تلك الأوصاف المنتشرة الآن من قبيل الروافض والمجوس و الصفويون و البويهيون .. كان ذلك تمهيدا موضوعيا لظهور النجم الجديد أبو مصعب ألزرقاوي.
دخل الزرقاوي العراق بشكل مريب , أسس تنظيم التوحيد والجهاد قبل أن يتبناه بن لادن تحت اسم القاعدة في بلاد الرافدين, وقد مثل تنظيم الزرقاوي الموجة الجديدة من تنظيم القاعدة والتي أخذت من الحرب الطائفية مصدرها الرئيسي لاستقدام المجندين وأصبحت الأوصاف التي أطلقتها قناة الجزيرة علي شيعة العراق هي الأدبيات الجديدة للتنظيم.
صال سيف الزرقاوي في العراق, سالت الدماء في كل مكان قُتل الشيعة بالجملة والسنة غير المبايعون والعمال الآسيويون , ذُبح الرهائن العزل وجزت رقابهم علي شاشة القناة ,
وانتشرت موجة من سفك الدماء لا سابق لها , فبالنسبة للزرقاوي كان المهم أن يتصدر عناوين الأخبار ولتحقيق ذلك يجب قتل اكبر عدد من الناس, فُجرت الحسينيات والجوامع وساحات يقف فيها العاطلون عن العمل, مرة أخري ارتفع مستوي الوحشية لكن القناة ظلت تهلل, فهذه المرة هي شريك في القصة منذ بدايتها, مرات عديدة كانت الوحشية تفوق أي احتمال , فتخترع القناة نظرية مؤامرة جديدة وهي أن الزرقاوي ليس إلا فلما هوليوديا وهكذا وفي ساعة إخبارية واحدة يكون نصف الساعة الأولي عن بطولات الزرقاوي والنصف الثاني يبرهن فيه كومبارس القناة انه فلم هوليودي, ومع استمرار فظائع الزرقاوي في العراق حددت القناة سؤالين اثنين مخصصين للإعمال الإرهابية في العراق وهما:
لماذا هذا التوقيت؟ ومن الغرابة أن يسأل عن توقيت عمل إرهابي في العراق في تلك الفترة حيث كان معدل العمليات الإرهابية –لا أقصد مقاومة الامريكيين -أربعين عملية في اليوم .
السؤال الثاني من هو المستفيد؟ وهو سؤال جنائي وطرحه لتفسير جريمة سياسية هدفه فقط تضليل المتلقي , ومن الأمثلة الصارخة علي ذلك حادثة اغتيال محمد باقر الحكيم في النجف.
أرسل الزرقاوي احد أقاربه في شاحنة مفخخة قتلت باقر الحكيم مع العشرات من المصلين وطرحت القناة السؤالين , وزعت الاتهامات علي إيران و إسرائيل والولايات المتحدة وكل من يخطر علي بالك بدعوي انه المستفيد ,دون أن تشير إلي المتهم الحقيقي والفاعل كما تبين بعد ذلك ,فبعد أيام قليلة تبني الزرقاوي العملية في تسجيل صوتي ولم تشر القناة إلي ذلك أحري أن تعتذر, وقد تكرر ذلك مع جميع الجرائم التي تري القناة انه ليس من مصلحة الزرقاوي نسبتها إليه ليصبح الأمر منسقا بشكل واضح, فبعد ارتكاب تنظيم ألزرقاوي لجريمته النكراء عليه أن يصمت لمدة يومين علي الأقل توزع القناة فيهما الاتهام علي أطراف كثيرة وبعد ذلك يعلن التنظيم مسؤوليته لأتباعه وتكتفي القناة بكتابة ذلك في شريطها الأحمر.
دخل العراق في حرب أهلية صريحة وأصبحت تقارير القناة عبارة عن عد يومي لعدد الجثث في بغداد وبرامجها تبرر كل ذلك دونما أي وخز للضمير, لكن فجأة ودون مقدمات ظهر ضوء في نهاية النفق ,عبد الستار أبو ريشه شكل صحوته وقدم خطابا مختلفا في عمق سيطرة القاعدة في الانبار, استدعت القناة هيئة علماء المسلمين والتي كانت ذراعا سياسيا للقاعدة وشنت حملة تخوينية شرسة علي "الصحوات" و أسمتها قوات الغفلة, لكن أبو ريشه كان يرسخ أقدامه في الرمادي وينهي أسطورة الزرقاوي ثم جاء تدخل ديفد بترايوس ليوجه ضربة قاصمة للقاعدة والمليشيات الشيعية ,ويحل هدوء نسبي كان العراق في أمس الحاجة إليه.
مات الزرقاوي وهرب حارث الضاري إلي الأردن لتعيش القناة فترة جمود, لكن انطلاق انتفاضة تونس في نهاية 2010 شكلت بداية لربيع جديد لكن ليس للعرب بل لقناة الجزيرة والموجة الثالثة من القاعدة : تنظيم " داعش".
تعلم تنظيم داعش الدرس جيدا فالإعلام والبروبغاندا هما وسيلة التجنيد المضمونة , وشريط مصور مدته خمسة دقائق يفوق تأثيره عشرة كتب مجتمعة من الفكر الجهادي, ولا يزال البعض يبدي دهشته من قوة داعش الدعائية دون معرفة ما تعنيه الدعاية لتنظيم كداعش و للتشكيلات النفسية التي يستهدفها .
أخيرا بدأ بعض أصحاب القرار في الدول الغربية ينتبهون لخطورة العلاقة بين الاعلام والإرهاب , وذلك من خلال اتخاذ خطوات تبدو شكلية لكنها مهمة , فقد رفض مدير المباحث الفيدرالية ذكر اسم القاتل في أي تصريح صحفي عقب جريمة أورلاندو, كما اتبع الاعلام الفرنسي سياسة اعلامية متحفظة في تغطية الأحداث الارهابية منذ العام الماضي بعدم بثه أي صور للضحايا , وهي خطوات مهمة لكنها لن تكون كافية ما لم تكن هناك وقفة جادة من أجل فهم دور الاعلام الحقيقي في نشر الارهاب.
مركز التواصل الإعلامي العربي الافريقي
الأمين العام :سيد محمود محمد علي