أفرح لدخول الصيف وأتشوف إلى حلوله (ولا أسعى لإغاظة أرباب الماشية) ففيه تهب ريح الجنوب (هكري) التي تثير فيَّ شعورا عصيا على التفسير والتحليل، ويقاسمني حبها بشار بن برد في قوله: هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت ** وأهوى لقلبي أن تهب جنوب وإن اختلفت البواعث؛ فهو يقول: وما ذاك إلا أنها حين تنتهي ** تناهى وفيها من عبيدة طيب. أما أنا فينشرح لها صدري وتزهر الصحارى القاحلة وتورق الجذوع المتخشبة في نفسي، بصرف النظر عما تحمله. أفليست الأشجار - وهي جمادات- تطرب لها فتهتز وتورق وتزهر! ولله روائح الأزاهير الغضة (آنيش) المحمولة على نسماتها السحرية ووقعها في نفسي. نشأت في مجراها فتشبعت بحبها وحملته معي أنى حططت رحلي، تذكارا لمنبتي ومنشئي، متشبثا به رغم أيدي النوى. أذكر سنوات أمضيتها بانواذيبُ كنت أرتاح لطيفها النادر الشاحب؛ غير مبال بحمولته الثقيلة من روائح السمك وغبار المعدن، وأنا من خلصاء الربو وقريب من ولد أبن موطنا ثم موقفا من السمك. عندما زرت أگجوجت للمرة الأولى كان الزمن شتاء تقريبا، ومع ذلك أحزنني الجدار الصخري الممتد من الغرب إلى الجنوب، وكدت أنشد قول أسماء المرية: أَيا جبلي نعمان بالله خـــــــليا ** سبـــيل الصبا يخلص إليَّ نسيمها فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ** على نفس محزون تجلت همومها. وظل في نفسي أسف لحرمان تلك المدينة الوديعة من تلك الريح الطيبة. وبعد ثلاث سنوات كررت إليها في الصيف، وريح الجنوب أنشط ما تكون وأجمله، فوقعت فيما توقعته! اليوم وقد دخل فصل الصيف.. أمسح زجاج نفسي، وأفتح نوافذ شعوري، وأنصب شعيرات أنفي، استعدادا لقادم حبيب إلى نفسي، اختزنت فيه ذكرياتي وأودعته طفولتي وشبابي.. إنه ريح الجنوب، أو "هكري" كما يقول الناس في موطني.