الجزائر وكالات ماذا يحصل داخل المؤسسة العسكرية؟ هذا هو السؤال المهم، الذي يطرحه الكثير من الجزائريين والملاحظين الأجانب هذه الأيام، بعد سلسلة الإقالات والتعيينات الجديدة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية وزير الدفاع، وقائد أركانه الجديد الفريق السعيد شنقريحة.
إقالات وعمليات إنهاء مهام، مست رجال قائد الأركان السابق، من الذين وصلوا إلى مواقع حساسة أمنية وعسكرية، في عهده.. كان لهم دور أساسي في توجيه الأحداث خلال سنة الحراك الشعبي في الجزائر، نحو الطريق المسدود الذي تعيشه لحد الساعة، بعد أن رفض هذا العسكري القوي أي حديث عن مرحلة انتقالية، طالب بها الكثير من القوى السياسية الملتفة حول الحراك الشعبي، التي قوبلت كل مطالبها المتعلقة بفتح حوار سياسي بالرفض، وهو المآل نفسه الذي عرفته المطالب المتعلقة باتخاذ ما سمي في حينها، بإجراءات التهدئة، والكف عن اعتقالات المتظاهرين، وتوقيف حملات الشيطنة التي تعرض لها الحراك الشعبي، من قبل الإعلام الرسمي، الذي زاد مستوى انغلاقه، خلال هذه المرحلة السياسية الحساسة.
بدل كل هذا البرنامج الانتقالي الذي كان يمكن أن تأخذ الأحداث بموجبه مسارا آخر مختلفا تماما في الجزائر، فضّل الرجل القوي الدخول مباشرة في الإعداد لانتخابات رئاسية مغلقة، فرض من خلالها قائد الأركان الرجل الذي اختاره، ليتم انتخابه في الأخير، رغم ما تعرض له من رفض، من بعض مراكز قرار مهمة داخل المؤسسة العسكرية ذاتها، وحواشيها السياسية والإعلامية، التي استمرت في العمل خلال هذه الفترة بشكل شبه مستقل، أخذت في بعض الأحيان مواقف معارضة لمواقف قائد الأركان نفسه، الذي أعلن عنها في تصريحاته الكثيرة التي تحولت إلى خريطة طريق أسبوعية، كان يتم الإعلان عنها أكثر من مرة في الأسبوع الواحد، خلال زيارات قائد الأركان الكثيرة لمواقع عسكرية، يمكن أن تكون أحد أسباب إنهاكه الجسدي (79 سنة). خرجات إعلامية وسياسية منحت النظام السياسي الجزائري مسحة عسكرية قوية، لم يتخلص منها لحد الساعة.
هذا التضارب في المواقف، من داخل المؤسسة، الذي زاد في تشويش الرؤية لدى الكثير من الملاحظين، الذين غابت عنهم المعلومة خلال هذه الفترة الحساسة من تاريخ الجزائر السياسي، بأحداثه المتسارعة، تكون قد عرفت حدوث ما يشبه «الانقلاب العسكري المصغر»، في آخر أيام الحملة الانتخابية، قد يكون وراء الوعكة الصحية، التي أنهت حياة هذا الرجل القوي، أسبوعا بعد الانتخابات الرئاسية، التي استطاع تنظيمها، حسب ما خطط له. هو الذي حصل على شهرة لم يحصل عليها أي قائد أركان آخر منذ استقلال البلد، لأمر لا يرتبط بما يتميز به الرجل من كفاءة، أو مستوى تعليمي عال، أو مؤهلات عسكرية بعينها. بقدر ما هو مرتبط بالظرف الذي أنهي فيه سنته الأخيرة على موقعه العسكري، كقائد أركان ونائب وزير للدفاع – 2004/2019- بعد انطلاق الحراك الشعبي في الجزائر وإبعاد الرئيس بوتفليقة، زيادة على ما ميز شخصيته من حدّة في الطبع وقدرة على المواجهة.
إقالات وعمليات إنهاء مهام، مست رجال قائد الأركان السابق، من الذين وصلوا إلى مواقع حساسة أمنية وعسكرية، في عهده
لم يقتصر الأمر على هذا الإبعاد من المناصب الحساسة، الذي تعرضت له القيادات العسكرية والأمنية المحسوبة على قائد الأركان السابق، بل وصل الأمر إلى توجيهها نحو العدالة العسكرية بتهم خطيرة، في وقت تمت فيه إعادة الاعتبار لبعض الوجوه العسكرية المغضوب عليها من قبل قائد الأركان نفسه، كما كان الأمر مع الجنرال بن حديد. إعادة اعتبار تحدثت بعض المصادر الإعلامية الأسبوع الماضي عن إمكانية أن يستفيد منها حتى وزير الدفاع الهارب خالد نزار نفسه، الذي أعلن عن رضاه عن قيادة الجيش الحالية، عكس ما كان حاصلا عندما كان قايد صالح على رأس قيادة الأركان. الأهم من كل هذا الصراع بين أبناء المؤسسة المنتمين للجيل نفسه وحتى الجهة نفسها – الشرقية كاتجاه غالب. مما يكون قد زاد، في حدة الصراعات السياسية، وهي تتلون بكم هائل من الذاتية والشخصنة. جيل عرف أبناؤه مسارات مهنية وعسكرية، مشابهة ومتداخلة، عادة ما تكون مولدة للكثير من الحزازات الشخصية المستعصية، التي لا تزول مع مرّ الأيام، ليكون الجديد هذه المرة، ما تكلمت عنه وسائل الإعلام الوطني الأسبوع الماضي.. منع أبناء قايد صالح من السفر.. وإمكانيه تعرضهم إلى المساءلة القانونية، حول مصالحهم المالية، التي استفادوا منها في وقت حكم الأب، الذي قاد عملية محاربة للفساد، أدت إلى سجن وجوه عسكرية ومدنية كبيرة، لم تصل إلى أبنائه، رغم إلحاح بعض القوى من داخل الحراك على ذلك. أبناء القايد الذين تكلمت وسائط إعلامية كثيرة الأسبوع الماضي، عن شبهات كبيرة طالت ذمتهم المالية، كجزء من الفساد الذي ترعاه العائلة الجزائرية داخل هذا النظام الريعي، الذي تماهى فيه القرار السياسي، الاقتصادي والمالي، كما بينته بشكل علني تفاصيل المحاكمات الأخيرة، لبعض الوجوه السياسية والعسكرية ـ حالة عائلة الجنرال عبد الغني الهامل كمثال. ليبقى الأهم من كل هذه الأسئلة المرتبطة بالماضي القريب وحتى الحاضر، هي تلك الأسئلة التي قد يطرحها المستقبل في علاقة السياسي بالعسكري، والمسار الذي يمكن أن تأخذه الأحداث في الجزائر، بعد الموتة الثانية، السياسية هذه المرة لقايد صالح، التي يوحي بها الكثير من المؤشرات، التي تسارعت وتيرها في المدة الأخيرة، فهل سيستفيد رئيس الجمهورية من هذا الغياب الرمزي والسياسي لعرابه القديم، لكي يتحرر من خريطة الطريق السياسية التي يكون قد فرضها عليه في ظرف سياسي خاص؟ أم إننا أمام نظام سياسي، لا دور كبير للفرد داخله، يجب بالتالي التوجه إلى الاتجاهات الثقيلة لفهمه والتعامل معه.
اتجاهات ثقيلة، يمكن أن يكون أحد مؤشراتها تعيين سعيد شنقريحة، بسيرته المهنية العسكرية البعيدة عن السياسة. كأول قائد اركان من خارج جيل ثورة التحرير ـ مثل رئيس الجمهورية – الذي يسيطر ديموغرافيا على المؤسسة العسكرية في الوقت الحالي، ما يسهل موضوعيا من عملية إبعاد المؤسسة العسكرية عن أدوارها السياسية، التي تعودت على القيام بها، يمكن أن تلتقي مع التوجهات التي نادى بها الحراك، وهو يرافع من أجل دولة مدنية، سيكون من مصلحة المؤسسة العسكرية، قبل أي مؤسسة أخرى، انطلاق مرحلة انتقالية لتجسيدها على أرض الواقع، كأحد مهام الانتقال السياسي السلمي الناجح الذي مازال يصرّ عليه الجزائريون، كسيناريو قابل للتحقيق إذا عرفوا ا كيف يتعاملون بذكاء مع قضاياهم السياسية المطروحة عليهم كجيل سياسي تصدى لبناء الدولة الوطنية على أسس مدنية جديدة.
كاتب جزائري