سيدي الرئيس، بعد شهر بالتمام من هذه اللحظة، ستحل ببلادنا ذكرى عيد الاستقلال المجيد (28 نوفمبر). ستخلده بلادنا هذا العام في جو استثنائي من الألم و الخجل، بعد العبث بكل رموزها الوطنية من قبل عصابة حِرابة ولد عبد العزيز : نشيدها الوطني ، علمها الوطني، ، عملتها الوطنية ، تلفزتها الوطنية، بلوكات، مقر مجلس الشيوخ ، الموسيقى العسكرية ، المدارس العتيقة .. بعد تشتيت لحمتها الوطنية التي تحولت بالنفخ في أوداج بيرام، إلى بضاعة رخيصة في المزاد العلني .. بعد اغتصاب وداعة مجتمعها الطيب وتخدير سكينتها الخَرُود و ترويع براءتها الجَزُوع : انتشار المخدرات في المدارس الابتدائية ، الفسوق و الشذوذ البواح في الإعداديات و الثانويات و انتشار الهيئات التبشيرية المُقنَّعة و السافرة المتحدية للمجتمع و النظام.
كانت حصيلة عشرية اختطاف الدولة من قبل هذ العصابة الشريرة و أجندتها الشيطانية و ما خلفت من آثار جانبية ، لا تقدر بشيء ، على المستوى المادي و المعنوي و الوجداني.
سيدي الرئيس،
هذه ليست مقدمة طللية لمديحيات اتحاد الأدباء الموريتانيين المتزلفة و لا ديباجة استعراضية لصحافتها المجبولة على التملق و النفاق، في وجه تشكيل لجنة صندوق دعم صحافة وزارة الداخلية.
فلا تنتظروا مني إطراء غير مستحق و لا تلميحا مهذب الغموض: إن بلدي يحترق .. إن شعبي يغرق.. إن قلبي يتمزق ..
لقد تجاوز تاريخُ سداد ديونك سيدي الرئيس و انتهت مهلة التبريرات الاستنزافية و التعهدات المجانية و التسويفات الاستباقية ، فاعتبر هذه الرسالة مجرد تذكير إجرائي بفوائدها الإضافية.
بعد شهر كامل من اليوم، ستوجهون سيادة الرئيس، خطابا للشعب الموريتاني المُعسكِر في الشمس منذ قدومكم، في انتظار عهودكم المتعثرة بكثبان من الغموض المريب و جبل من التناقضات المحيرة..
قد ينزعج الكثيرون من توقيت هذه الرسالة و من صراحتها المفرطة (و أنا واثق أنني أصدقهم معك و سأكون أسعدكم بعدم فشلك)، إذا لم يفهموا أن علينا أن لا نترك هذه الفرصة تمر من دون تحويلها إلى حدث تاريخي ، تصب اليوم كل الآمال و التحديات في مجراه، بما يلزمنا أن نرفض أن تكون مناسبة عادية و حدثا عاديا لتقليد عابر : سنجدِّد آمالنا و نحدد كل تطلعاتنا و مواقفنا من ولد الغزواني من خلا هذا الخطاب. و علينا أن نفهمه من الآن أننا في انتظاره على جبل من جمر القتاد.
فخامة الرئيس،
لقد فهمنا اليوم كل شيء بأدق التفاصيل : الأسباب و الخلفيات و التحديات و الإكراهات ..
فهمنا الحقائق و الألاعيب و طرق تمرير مشروع الهيمنة المنتظر ..
فهمنا فنيات ترويض العقل الجمعي على تقبل أمر الواقع ..
فهمنا عبقرية تبادل الاتهامات و تراشق الأجنحة و تدافع المسؤوليات و العمل على اتهام الجميع من أجل عدم اتهام أي أحد ..
فهمنا تأثير الروابط الاجتماعية في الشأن الوطني و خطورة تشابك المصالح الشخصية و عمق التقاء مياهها الجوفية ..
فهمنا خارطة المسافات بين الأقوال و الأفعال ..
فهمنا اتجاه النوايا و فنيات ذر الرماد في العيون (...)
لا أعرف من سيُعدُّون خطابكم سيدي الريس، لكنني أرى وجوههم بوضوح في مرآة التاريخ .. في أسباب تخلف بلدنا المخجلة.. في آلام شعبنا المزمنة .. في تصدع لحمتنا الاجتماعية المهملة.. في انتكاسة قيمنا الاجتماعية و الحضارية .. في تراجع دورنا التاريخي في المنطقة حد الذبول..
فمتى يقيِّض الله لهذه الأرض رجلا لا يعوض عجزه بالخطابات المعسولة و قصائد المدح بما يشبه الذم أو بما هو أقبح منه؟
ـ لم تنجزوا يا سيدي حتى هذه اللحظة، سوى سيل من الوعود غير الموفقة و المشاريع الفاشلة و السياسات المُعوَّقة..
ـ لم تنتجوا حتى هذه اللحظة، سوى طوفان من صفقات التراضي غير المبررة و توزيعِ ربيعٍ من الابتسامات السعيدة و العبارات المنتقاة ..
لم تقنعوا حتى هذه اللحظة ، سوى من كانوا يناصرونكم و يؤازرونكم بأنكم لستم من كانوا ينتظرونه و لا من سيكون رهانهم المستقبلي عليه..
ـ لم تخرجوا موريتانيا حتى هذه اللحظة ، إلا من سكة الأمل .. إلا من استحالة فهم العسكر.. إلا من آلام وعكة عابرة إلى مأساة مرض مزمن..
ـ لم تجروا موريتانيا حتى هذه اللحظة ، إلا إلى مزير من التعقيدات و مزيد من ضياع الوقت و مزيد من الخذلان..
ـ لم تجلبوا لموريتانيا حتى هذه اللحظة، غير مزيد من العار بتحكم المتزلفين و تبجح المفسدين و تعرض الساقطين..
ها هو الشَارْلَتانْ عزيز في النهاية ، يتربع على رأس مأموريته الثالثة بتبجح ، حين أصبح الانشغال بقضيته التافهة، هو كل مشروع مأموريتكم و مبرر كل أخطائكم و مؤجل كل مشاريعكم و معطل كل تعهداتكم : ماذا يستطيع من يعجز عن توضيح أن مدرسة الشرطة ملك للدولة ، يرمى في السجن كل من يعتدي عليها؟
لن أدخل الآن، في التفاصيل المبكية ، المهينة : لقد أمهلناك سنة و نيف من التشرد و التسكع و التذمر و الاستياء العام ، في أمل ان تتذكر يوما وعودا قطعتها على نفسك .. في انتظار وخزة ألم من مأساة شعبك، توقظُ برقَ الحقيقة في عينيك.. في رجاء أن تخرج من ترددك و تهيُّبك و هروبك إلى الصمت..
سنمنحك مهلة هذا الشهر في انتظار خطابك بمناسبة عيد الاستقلال الذي لم يبق من معانيه غير اسم موريتانيا المشوه و هذا التقليد الممل بما يحمل من مهدئات قاتلة و تسويفات بلا ذاكرة و وعود لا يحرجها طول العمر..
لم يكن خيارُنا الأوحد أن نهادنك لكنه كان من واجبنا أن نصدقك .. أن نمهلك .. أن نترك للزمن مهمة كشف ما نحتاج من حقائق حول مشروعك المجتمعي مُربِك التناقضات..
و لم يبق أمامك اليوم سوى أن تعلن اختطاف الدولة بالقوة أو تقدم لنا تفسيرا جديدا لتعهداتك التي فهمنا الآن أنها كانت لولد اجاي و كومبا با و ولد الداهي و من على شاكلتهم ، لا لشعبنا الصابر، المَخذول ..
كان بيدك أن تكون من تشاء حين وجدت نفسك ـ على غير موعد ـ على مفترق طرق مفتوح الاتجاهات بفعل الزمن ، فكان تمسكك بالمفسدين و تدويرك لقطع غيارهم المتهالكة ، و ولعك بصفقات التراضي و ازدراؤك بردة فعل الشعب، إصرارا واضحا و فاضحا على التمسك بانسجامٍ مع مناخ الفساد و السير في طريقه السالك و المُجرَّب بكل أزقته و منعرجاته.. كان ردك واضحا و بليغا و مباشرا و مشفوعا بالنوايا الواضحة و الأفعال الناطقة و صمت الإصرار المُطبَق.. كان مشفوعا بكل ما يفسر كلامك و يوضح رؤيتك و يزيح الغيوم عن كامل حقيقتك : تعيين ولد أجاي على رأس أهم مؤسسة في البلد ، ترقية كومبا با من مستشارة إلى وزيرة مستشارة ، توشيح زين العابدين ، حماية الشيخ الرضا ، تدوير رُولِيتْ الفساد بما تحمل من غث ، استقدام دياسبورا من الخارج ليس من بينها من تألم يوما لما يحدث في موريتانيا من مآسي تقشعر لها الأبدان. و كان صمتنا و انتظارنا لقطعِ ألسنة الواهمين و كشف حقيقة المتواطئين .. كان تشبثا بأمل نتحاشى أن يتهمنا بمحاكمة النوايا.
ألا أقول اليوم ، معذرة من كل قلبي للشيخ ولد باي، لأنني متأكد (جازما)، أنه ما كان يمكن أن يقابل الشعب الموريتاني بمثل هذه البداية المهينة و لا كان يمكن أن يُهملهم في غرفة الإنعاش بكل برودة هذه النهاية.
كنا نفهم أن الخروج من الفساد صعب على من أدمنوه، لكننا كنا نأمل (رحمة بأنفسهم لا بنا) أن يفهموا أن الزمن تغير و ليس من عادة الفرص الجميلة أن تتكرر ..
ليس بأيدينا اليوم أن نهديكم أثمن و لا أرحم و لا أوفى ، من وعد لن نخذله بإذن الله ، بالوقوف في وجوهكم بكل ما نملك من قوة تزدرونها حد الاحتقار و نراها سرا عظيما حد انشطار الذرة : كل ظلام الدنيا يا سيدي، لا يستطيع أن يخفي وهجَ شمعة مُضيئة..
كان من حقنا غير الضروري (حتى لا نحمل التاريخ وزر أخطائنا)، أن نصدقكم و نكذب أنفسنا و أصبح من واجبنا المقدس أن نفكر في مواجهتكم بدعوة شعبنا لأعلى درجات التمرد و العصيان المدني، إذا لم تغيروا هذا النهج المُبتكَر لامتصاص الحماس و امتصاص الصدمات و امتصاص ما تبقى من فضلات عزيز النتنة.
سيدي الرئيس، أنت الآن مختَطف.. انت الآن معتقل في قبضة عصابات النهب والتدمير ، أنت الآن بلا قرار و لا توجه ولا رأي ..
تخلص من كل من يحيطون بك.. من كل هذه الطغمة الفاسدة الحقيرة.. من تحكم وهم البقاء الآمن، لتكون رئيسا بما يمنحك الدستور و القانون من صلاحيات.. بما يُلزِمك التاريخ من أمانة.. بما ينتظر شعبك من آمال:
ليس للمفسدين دين على أحد .. ليس للمنافقين دين على أحد.. ليس أعظم و لا أنبل ولا أجمل في الدنيا من أن تكون رجلا على مقاس المسؤولية : "و لم أر في عيوب الناس شيئا / كنقص القادرين على التمام".
سيدي الرئيس الموقر،
بماذا نستطيع اليوم أن نؤازركم و ندعمكم و نشد على أياديكم (و ليس هذا دورنا و لا أجمل ما يمكن أن نقوم به)، أكثر من أن نضعكم أمام الحقيقة؟ : ما أسهل يا سيدي، أن تكون عاقلا بعد فوات الأوان.
بماذا نستطيع أن نفيدكم إذا كنتم لا تريدون أن تسمعوا غير أصوات المطبِّلين؟
ماذا تركتم لنا من خيارات غير الجلوس في ظل وهمكم المُشمِس أو الوقوف في وجه توجهاتكم التي تقول شيئا و تفعل شيئا آخر و تفكر في شيء ثالث؟
نحن الآن في انتظار إشراقة طلَّتكم البهية ؛ فكن سيدي، على موعد مع التاريخ الذي لا يرحم.. مع شعبك المهان .. مع بلدك المنهوب. أو اركب رعونة ولد عبد العزيز و يحيى جامي و غيرهم من الطغاة السذج، ستجدنا أمامك حيث نزلوا جميعا ؛ لكن، تذكَّر حين لا يكون هناك بُد مما ليس منه بد ، أننا أمهلناك واقفين على الجمر و نصحناك صادقين رغم التعنت المستمر .
تذكر سيدي، أن السقوط إلى الهاوية يبدأ دائما بزلة قدم في القمة؛ و تذكر المثل القائل "يسخر من الجروح كل من لا يعرف الألم"
ليتك تذكرتها في لحظة تصوف شاردة و نجوت بنفسك قبل قبضة القدر.
سيدي الرئيس، عرفنا الآن أن ما كان لم يكن غريبا ، فلا تجعلنا نضيف إليها أن ما صار لم يكن مستبعدا..!
أنا وحدي سيدي الرئيس ـ في ما يبدو ـ من يتمنى صادقا، أن تخرج من هذا القمقم..
و إذا اعتبرتها زلةً ـ عزة بالنفس ـ فأنت الـ"عزيز" قطعا، بأقل ذرة من ندم.
فلا نامت أعين الجبناء، بما نثروا بين هذا الشعب الوديع من عطور منشم