بعد أن طاف الإنسان في الفضاء الخارجي وأصابه الدوار، وبعد أن عجزت الميزانيات عن نفقات الفضاء الباهظة، وبعد أن نزل على القمر ولم يجد شيئا، وبعد أن فضح رائدا الفضاء تخاريص وترهات العلماء عن وجود محيطات وبحار فوق سطح القمر.. وتنافست الدول الكبرى السفيهة على امتلاكها، وسمتها بأسمائها.. وكادت تتقاتل فوق الأرض لاقتسام ثروات القمر.. وخاصة الثروات البحرية!.. وبعد أن اقترب الإنسان من كل أجرام المجموعة الشمسية، والتقط لها الصور، ويئس من وجود أى حياة فيها، ومن إمكان أى معيشة عليها، عاد إلى الأرض مصدوعا.. مصابا بالدوار والقيء والموت... ولم تبق إلا حقيقة أن الأرض وحيدة فريدة وأنها مصدر الحياة.. وأن الحياة ماء وغذاء، وأن المكان الوحيد الذي يمدنا بذلك هو الأرض لاغير، وأن الحاجة الوحيدة الماسة هي الخبز والتمر والحليب واللحم والماء.. وأن الهواء الضروري للحياة لا يمدنا به إلا غلاف الأرض.. هكذا.. ولهذا عاد الإنسان من طوافه الخارجي إلى سطح الأرض".
من قصة انتحار رائد الفضاء
للكاتب معمر القذافي،،
•••••
سرعان ما أفل هلال غرة الشهر، وعاد إلى حيث مخدعه.. وأستمر الليل يغزو رمال الصحراء وينفخ فيها من روحه، ليبث فيها تطلعات جديدة، حيث تولد ليلة اخري تسبق غدها وتنبيء عن مجيئه.
ومع إشتداد ظلام الليل حلكةٍ، أشتد لمعان النجوم، وازدادت السماء بريقاً وتموجاً.
واستمريت في مسيري بمحاذاة العقيد، الذي كان بمثابة ترسانة فولاذية، امام توجساتي، ورغبة نفسي العارمة في ولوج صفحات مظلمة من تاريخ بلادنا، ونبش مقابر جماعية "للعار".. صفحات مظلمة لم يشأ العقيد إلا أن يأمرني بالصمت حيالها، وتركها للايام، كما فعل هو ورفاقه ليلة الفاتح!
ومع أن الصمت كان قد تسًيد المشهد في تلك اللحظات، إلاً أنني، وككل مرة، حاولت اختراق هذا الجدار، واستهلال آفاق جديدة للحديث مع العقيد، فقلت في نفسي بصوتٍ مسموع، ها هو الهلال قد أهلً، ثم رحل!
قال العقيد معقباً على قولتي، بل أستهل ولَم يرحل!
قلت له، ولكنه أختفى يا سيدي! ولَم نعد نراه!
أجاب العقيد قائلاً، وهذا لا ينفي وجوده! إن عدم رؤيتكم للاشياء لا تنفي وجودها.. وهي حجة على أبصاركم، وحتى على بصائركم، وليست حجة على الهلال، الذي قد يظهر، ثم يختفي دون ان يغادر منازله، حتى ولو عاد كالعرجون القديم.. ان كل تلك المنازل إنما هي لتبيان المواقيت.. ولتعلم أمة (إقرأ) عدد السنين الحساب والتأريخ!
قلت له ولكن، يا سيدي ماذا نفعل إذا غمً علينا.. وتركنا القراءة والحساب.. ولَم نعد نرى الهلال إلا فوق "قاعدة معيتيقة"، وعلى صدور "الجنود العصملة"، وفي حفلات أحفاد الأرمن، ومشويات "بحر إنطاكيا وحوض الأناضول"!
ماذا نفعل يا سيدي العقيد إذا غمً علينا، ولَم يظهر لنا الهلال إلا في "خيشة سوداء" يتلحف بها بعض سفهاء احلام "سنوسية البرغوث" في فبراير وديسمبر؟ بل حتى "ديسمبر" قد غمً علينا، يا سيدي بما فيه من برد و"كانون" ورماد وكذب وتدليس على التاريخ.. فجلسنا نأكل امام "مواقد الكانون"، ولسان حالنا يردد في "جنبر كول وڤنبر".. فأكلت العجاف السمان.. وأكلت اليابسات الخضر.. ولم يخرج فينا "حفيظ عليم" بل ظل "صديقًنا في معتقله" ، ولَم يأتِنا عام فيه يغاث الناس، ولَم يجدوا ما يعصرون.. إلا إعتصار الالم والمعاناة.. حتى قوتهم صار لا يأتيهم إلا منًا، وأذى، وذلة، وسؤال الناس ألحافاً.. ولو جاء من سقط متاع القوم، وآراذلهم، وأشدهم خسة وأكثرهم نذالة.. كدقيق الزهايمر، وما دقيق "عظام زائد" وهبات "موزة المسند" عنًهم ببعيد! كيف يستقيم الامر ونحن بالامس كنًا نرفع شعار التحول للإنتاج.. وإغاثة الملهوف و "لا استقلال لشعب يأكل من وراء البحر"..
ماذا عسانا أن نفعل يا سيدي العقيد، امام هكذا غمة؟ فهل نفطر أم نصوم؟
قال العقيد، بحنقة بل تصوموا الدهر كله، ولا تفطروا على هكذا تاريخ!
ثم سكت وقد أعتراه حزن عميق، كتلك المرة، حتى خشيت أن ينتهي الحوار معه!
وأستمر يمشي مسرع الخطى، يعبث بالرمال بخطوات سريعة ومتلاحقة، جاهدت نفسي المتعبة كثيراً لتتبعها..
وفجأة توقف عن المشيء، فوقفت بجانبه مرتبكاً.. مترقباً ما سيفعل، وإذا به قد تنفس الصعداء! ثم أوى إلًيً، وقال يا أبني هذه أمة تعشق الذل وتهوى الغمً، وتألف الخرافات، فيجنح "دروايشها" للعرًافين والكهنة وتجار الدين وحتى تجارالمخدرات والحجاجيب والكتبة وتجًار السلع التموينية التي كانت تفيء بها الارض! يا أبني عليكم ان تقتلوا هذا الجهل وتطرحوه أرضاً.. أو تدفنوا رؤوسكم في الرمال؟
قلت له ولازلت مرتبكاً: كالنعام مثلاً!
نظر إليً باستغراب، وقال حتى النعام لم يسلم من جهل هذه الامة! ثم هدأ قليلاً، وقال أعلم يا ابني أن النعام لم يدس رأسه في التراب يوماً لجبن به، وإنما هو يفعل ذلك لإستشعار الخطر عن بعد! حتى وإن لم يكن الخطر مرئياً، فإن النعام يستشعره بطريقته الخاصة، وإن بدأت لبعضكم إنها عملية جبانة!
وبينما كان العقيد يتحدث عن إستشعار النعام للخطر عن بعد، تذكرت تلك الغشاوة التي غطت الابصار، وجعلت علاقتنا مع الله ومواقيت عبادتنا له، بيد زنديق لا يسمع ولا يرى، كان جده قد أهدى سيف الاسلام لولي أمره "موسيليني"، وكان جده الاخر يقف بجانب "ادريس السنوسي" لينقل أخبار "عمر المختار" للطليان.. تماما كما فعل أحفاده من غلمان إحداثيات الناتو!
وبينما ظلت تلك المشاهد مستحوذة على خيالي، أستمر العقيد يتحدث عن تجارة الخرافات والزندقة ولاهوت الكتب الصفراء، وأعمال الكهنة والعرًافين، حتى ثمثلت امامي عرافة "الواهمين" التي نصبوا من "تنجيمها" جسور من الوهم! يقف السذج عليها ليترقبًوا النصر المبين في ليلة رأس كل سنة.. قبل أن ينام الجميع في العسل، مع نشوة الانتصار في معارك التصويت في صفحات "الفيس البوك" لاختيار شخصية العام، وحتى شخصية العصر، وهم في خسرٍ يتبادلون التهاني بكذبة الميلاد، وهم يعلمون إن الرطب الجني لم يكن يتساقط على "مريم البتول" في "ديسمبر".. وأن صاحب "حمار اليهودي"، هو من افترى على الصديقة ذلك البهتان العظيم.. وان "نيكولاس" أسقف "ميرا" التركي هو من مات في "ديسمبر".. وهو من ابتدع السنت كلوز، (بابا نويل) وأعانه اخرين عندما كانت عدة الشهور الوثنية عشرة أشهر..!
انهم يعلمون هذا، كما يعلمون إن الذي يتساقط في كل عام، في ديسمبر، هو بعض من مدخرات الشعب التي حفظها "العقيد"، فأسقطها من سقط، في الحساب البنكي للعرًافة "ليلي" او حتى "شلامًة ستيفاني ويليامز"! غير إن "العرًافة ليلى" لطالما «جلست والكذب في عينيها..
تتأمل في ليبي مغلوب..
قالت يا ليبي لا تفرح..
فالوطن عليك هو المكذوب..
في حياتك يا ليبي صفحات سوداء.. وتاريخ مكذوب، مكذوب..
وفي بلدك يا ليبي عاهات.. جرائمها سبحان المعبود!
يا ليبي قد مات شهيداً.. من مات كالهنشيري والبغدادي والمجدوب)).
قلت في نفسي، وأنا أردد هذه الكلمات، إن تلك العرًافة تعي هذه الحقيقة، وتستطيع التمييز بين الغث والسمين.. بل هي صورة حقيقية لوعي "برنارد ليفي"، يوم أن جلس مع الزبير السنوسي، وسيف النصر، والاطيوش وحفنة من الخونة الآخرين، وظل يتأمل في وجوههم "الصفيقة" بتعجب لحجم ما رأه من خيانة، وهو يبشًر "ساركوزي" بغلام يولد في "بنغازي" ويحمل أسم الاخير.. غلامٌ لم يجعل له من قبل في بلاد الغابرين سميًا، إلا "أوديسا الزوارية" و "جورج بوش الكويتي".. غلام لا زكاة فيه، ولا رحمة ولا بركة، أنحدر من صلب خيانة لا يسقطها تقادم.. خيانةٌ صعق من هولها "ليفي" نفسه وقد رأى العجب العجاب فيما كان يسمع، ويقرأ عن البدو والقبائل التي تدعي الشرف.. ما جعله يدونها بنشوةٍ فِي كتابه الشهير "الروح اليهودية"، حين قال إنه لم يعد يُؤْمِن بعدها في هذه الدنيا بالمعجزات!
قلت في نفسي وأنًا استحضر هذا التاريخ أنه لم تعد هناك من معجزات، فحتى "العرًافة ليلى" تعرف انها وإن صدفت في موضعٍ، فهي من الكاذبين! ولكن كيف لا نتعض ونقتدي بهديها او حتى بضلالتها، ونحن نبني خطط العام على تنجيماتها "وتاڤزت" نوتات الموسيقار حاطب الليل!
ثم قلت في نفسي، ماذا لو حدًثت العقيد عن ذلك! كيف تراه سيتصرف؟ لكنني ارتأيت ألا أرهقه من أمره عسراً!
لاحظ العقيد، الذي ظل واقفاً طويلاً، لاحظ أثار التعب على نفسي المرهقة، وكان يعلم عشقي لإيقاد النار، وسط ليل الصحراء الحالك، فبادرني هذه المرة مبتسماً قائلاً ما رأيك في نار ليل الصحراء!
تهللت أسارير نفسي الموجوعة لبشارة العقيد، حتى شعًرت إن الحياة قد دبتً في نفسي من جديد..
أنطلقت كعادتي أجمع ما يقع بين يدي من حطب وقد تذكرت ترنيمة لازلت احفظها عن جدتي "رابحة بومنيار" تقول (ركوب القزازين للخيل.. ولحقت فارساً بوجناية..
حياني كما حيًت السيل
لوادي كثير الحنايا"، كنت اترنم بهذه الأهزوجة وقد لاحت امام ناظري قوافل الشهداء وأولادهم فوق عقود من الخيل يرهبون ذرّيات الخونة.. يمسحون آثار اقدامهم الهمجية، بعيدٌ عن معارك الفيس بوك وصناديق الانتخابات.. ومنتديات الحوار اللإنساني. واستمريت أجمع الحطب حتى صارت ألسنة النار تخترق كثبان الرمال كأنها فوهة بركان.
ثم جلست عن يمين العقيد غير بعيد عنه، مستأنساً بجواره ولازال الحزن ينهش كل أحشائي.
استمر الصمت طويلاً حول موقد النار، فلا العقيد أراد الحديث ولا استطعت انا هذه المرة كسر حاجز الصمت! ثم قام العقيد من مكانه ومشى عدة خطوات حتى كاد ان يختفي عّن ناظري، وشرع في صلاة الليل.. تحركت من مكاني تجاه وقد سمعته يقرأ "سورة النصر" بصوت جهوريٍ انتشر كالصدى وسط هدوء ليل الصحراء..
وما ان عاد العقيد ليجلس في نفس المكان الذي فاض بالروحانيات حتى بادرته بالسؤال: متى نصر الله يا سيدي العقيد؟
تابعوا التكملة في منشور قادم بإذن الله تعالى،،،
خميس الزناتي