السالك ولد اباه كاتب ومحامي
الكلام عن الحركات الإسلامية في هذه البلاد يقود إلى الحديث عن الهوية في الخطاب الفكري الإسلامي ذلك لأن مشكلتها في موريتانيا لم تحسم بعد ومن مظاهر ذلك ما تعرض له اسم البلاد من تغيرات انطلاقا من المغرب الاقصي أو بلاد شنقيط وبلاد التكرور ومرورا بموريتانيا التي أطلقها كبلوني رفضا لاسم الجمهورية العربية الموريتانية من قبل فرنسا وصولا إلى
الاسم المتداول حاليا، تأسيا بباكستان التي اقتطعت من الهند ، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات إذا علمنا ان فرنسا هي من باركت اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية وهو في الحقيقة قد يكون حقا أريد به باطل وتوظيف للإسلام في السياسة لطمس الهوية العربية في بلد لم يزل في طور التشكل للحيلولة دون قيام دولة مركزية في الشمال العربي بإطلالة على أوروبا شمالا وعلى الساحل الإفريقي جنوبا في ظل مقاومة مسلحة يقودها الملك محمد الخامس من منفاه الإجباري.
مع أن رفع شعار الإسلام في المشروع العربي لايعد نشازا في عرف السياسة فحزب البعث شعاره أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وثورة يوليو 52 في مصر لا تخفي البعد الإسلامي في مشروعها القومي .
مع وجود ثنائية بين العروبة والإسلام يصعب تحديد دلالاتها وإن كان الأمر في موريتانيا لا يحتاج لتخطيط فرنسي فهو محسوم سلفا لصالح الإسلام فموريتانيا بلد المنارة والرباط لا يعرف غير الإسلام دينا ولا مذهبا غير المذهب السني المالكي، وإن عرف مذاهب أخرى قبل استقرار هذا الأخير هي المذهب الأباضي الذي سيطر عقب دخول الإسلام بقليل ثم المذهب السني السلفي الذي رافق وجود المذهب الشيعي العبيدي في عهد المرابطين الدولة السنية التي أسست نظاما قويا انطلاقا من هذه البلاد امتد إلى ما وراء النهر جنوبا والأندلس شمالا وقد ترسخت أركان المذهب المالكي واللغة العربية بفعل الهجرات العربية الوافدة من جزيرة العرب عبر المغرب وغرب الجزائر حيث كان أغلبهم من قبائل بنى هلال والشرفاء الأدارسة الخارجين على دولة الموحدين وبني حسان الذين حكموا الفضاء المعروف وقتها بالمغرب الأقصي لعدة قرون بالإضافة إلى دور الصوفية في )أسلمة( افريقيا الغربية وقد ظلت البلاد قلعة حصينة في وجه الغزو الصليبي إلى أن جاء الاستعمار ليقوض هذا الدور انتقاما من الإمام ناصر الدين الذي أفتي بمنع تجارة الرقيق التي كان يمارسها الاروبيون في الساحل
الافريقي متخذين من جزيرة )جوري( السينغالية مناء لتصدير بضاعتهم .من هنا كانت النية مبيتة لجعل شنقيط منطقة عازلة بين العرب في الشمال والزنوج في الجنوب لمحاصرة المد الإسلامي ، علما بأن التواجد الاروبي في السواحل الغربية لموريتانيا جاء مبكرا عقب انسحاب دولة المرابطين إلى الشمال حيث عرفت البلاد نشاطا استكشافيا سنة 1095 م كما أسس البرتقاليون مراسي في )آركين ( و)أجادير دوم( و )بورتانديك( عام 1443حيث كانت هذه المراسي التجارية محل نزاع مسلح بين هولندا وفرنسا سنة 1678 م إلا أن اتجاه المراسي تحول إلى )نهر السينغال( لتشجيع تجارة الصمغ بين إمارة اترارزه والشركات الفرنسية وبذلك انتقل الفرنسيون إلى الجنوب الغربي للإمارة ، حيث كانوا يتدخلون في الصراعات الأميرية داخلها انطلاقا من مدينةسانت لويس ليتمكنوامن فرض سيطرتهم على جنوب البلاد وهو ما تم لهم بالفعل ما بين سنتي 1901 و 1903 وهنا بدأ التغلغل الفرنسي نحو وسط البلاد تحت شعار التوغل السلمي إلى ان قتل كبولاني على يد المقاومة سنة 1905 م وبذلك تحولت حروب المجاهدين انطلاقا من قواعدهم جنوب المغرب إلي حملات عسكرية قوية حتي سنة 1934 م ولم تكن )معركة أم التونسي(آخر المعارك بل أن المقاومة غارت على حامية فرنسية سنة 61 في مدينة النعمة وقتلت بعض أفرادها وتواصلت الغارات على الجيش الفرنسي في البلاد بقيادة جيش التحرير المغربي .
من هذه الخلفية التاريخية المشحونة بالمؤامرات والصراعات وبتلك الصورة الضبابية المعبرة عن الإرادة الاستعمارية التي لاقت منذ بدايتها مقاومة قوية تجلت في الهجرة السكانية إلى المشرق وماعرف حينها بأدب المقاومة وتـأسيسا على هذه المرجعية انطلقت الحركة الإسلامية في موريتانيا مع صعود نجم الصحوة الإسلامية في العالم وعودة الطلاب المتخرجين من مختلف الجامعات العربية مشبعين بفكر الشيخ حسن البنا وكتابات السيد قطب وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي . حيث بدأ نشاط الحركة الإسلامية من خلال بعض الهيئات كجمعية الدفاع عن الإسلام سنة 61 والجمعية الثقافية الإسلامية سنة79 وما تلا ذلك من نشر مبادئ المذهب السلفي ذي البعد الوهابي والترويج لمواقفه من التصوف والعقيدة الاشعرية مع تدفق الأموال الخليجية المخصصة لبناء المساجد والمعاهد والمراكز الدعوية وتمويل الهيئات الخيرية في بلد يقع أكثر من %60 من سكانه تحت خط الفقر ، وهي عوامل أفضت إلى تحول فكري ومذهبي غير مسبوق في مسار الحركة الإسلامية
الموريتانية من هنا ظهر الاضطراب في وحدة الخطاب الإسلامي ومصدر الفتوى الشرعية لتعدد المرجعيات وتباين آرائها في العقيدة والعبادات غير أن مميزات المذهب المالكي ظلت مسيطرة لجريان العمل بـها ولمواقفها المهادنة للسلطات . وقد كانت الفترة الواقعة مابين 79 إلى 84 تشكل العصر الذهبي لأغلب الحركات الإسلامية لأن النظام وقتها أخذ قرارا بتطبيق أحكام الشريعة في إطار صفقة سياسية مع تلك الحركات وقد لقي هذا التوجه تأييدا جماهيريا داخل البلاد في حين تم التنديد به
من خارجها ، مما أثار جدلا واسعا حول قدرة الحركة الإسلامية على التعاطي مع متطلبات الدولة المدنية الحديثة القائمة على الحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان ، كما تم تأكيد هذا التوجه بعد صدور دستور يوليو 91 الذي نص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع كذلك صدور قانون الأحزاب الذي كفل حرية التعبير والتعددية السياسية مع حظر
الترخيص للأحزاب ذات الطابع الديني مما جعل النظام يرفض الترخيص لحزب الأمة ذي التوجه الإسلامي .
أما بخصوص الموقف من الهوية فنراه غامضا في أدبيات الحركات الإسلامية وقد يكون مصدر ذلك الصراع الحاصل بين المشروعين العربي والإسلامي في المشرق مع الإشارة إلى وجود رأيين متباينين في الموقف من الهوية داخل الحركة الإسلامية.
أحدهما : - ينتمي للمدرسة السنية التقليدية ولا نجد في أدبياته ذكرا لموضوع الهوية وهو موقف قد يجد تفسيره في عدم معايشتهم لما كان يجري داخل الخلافة العثمانية من صراعات بين الرعايا العرب والأتراك الحاكمين ولذلك نجد مجموعة من فقهائهم يصدرون فتاوي يخطؤون فيها الموقف التركي في الحرب العالمية الأولى استجابة لدعوة فرنسية وهو اتجاه لا
يخفي دعمه للأنظمة الحاكمة ويفتي بمنع الخروج عليها ولو جارت واستبدت .
أما التوجه الثاني فيدعي القوة الإسلامية الموحدة التي استطاعت أن تتكتل في حزب سياسي يستلهم أفكاره من حركة
الإخوان في مصر ومن تجربة حزب التنمية الحاكم في تركيا وهو التوجه الأكثر انفتاحا ونشاطا من بين الحركات الإسلامية ، وهؤلاء يقبلون الطابع العربي لهذا البلد ويدافعون عن اللغة العربية في الوقت الذي يتحدثون فيه عن أهمية العمق الإفريقي لاعتبارات جغرافية وسياسية .ويخلصون إلى القول بأن الحضارة الإسلامية هي التي جمعت ما بين جهاد الشيخ ماء العينين
في أقصى الشمال في الساقية الحمراء بجهاد عمار تال بأقصى الجنوب بأرض السودان الغربي
باجتهاد الشيخ باب ولد الشيخ سيديا ونظرته التحديثية وروؤى الشيخ محمد المامي المتقدمة على عصره في التنظير
لقيام الدولة المركزية في أرض )السيبة( إضافة إلى قبول الإسلاميين للغة الفرنسية لإسهامها في حوار الحضارات وهم بكل أطيافهم حسب ما يذكرون يراقبون النشاط التنصيري في أفريقيا ويتصدون له كما يقفون إلى جانب النضال الفلسطيني ويساهمون في رفع الحصار عن غزة ويدينون الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وأكثر من ذلك يستنكرون بشدة قتل المجاهدين بغير حق وخاصة الشيخ أسامة بن لادن الذي قتل دون محاكمة من عملاء دولة تنصب نفسها راعية لحقوق الإنسان في العالم . وطيلة هذه المسيرة فقد ظلت علاقتهم بالحكم تتأرجح ما بين المساندة والمعارضة حيث مرت بأوقات صعبة سنة 94 أدت إلي صدامات واعتقالات واسعة بتهم منها الانتماء للمدرسة السلفية الجهادية والتلقي من أفكار الشيخ عبد الحميد الزنداني . إلا أن اغلب منظريهم تجاوزوا المحنة ووقفوا رسميا مع النظام حين تعرضت البلاد لغزو مسلح من عصابات تتخذ لها قواعد في الصحراء على حامية لمغيطي 2005. والغلاوية وتورين لاحقا ودحضوا حجج المحاربين التي
برروا بـهـا اعتداءاتهم وافتو بواجب النظام في الدفاع عن الثغور ورد العدوان وملاحقة المعتدين وقتلهم حيث ثقفوا ، كانت هذه صورة لما تمكنت من توثيقه ونقله للقارئ الكريم عن الحركة الإسلامية في موريتانيا بعد ما أمكن من التحري والاعتماد على ما ترويه أدبياتهم فاتحا المجال للتعليق والتصحيح فأنا لا أتحدث من موقع تنظيمي داخل الحركة والذي يهمني هو مناقشتهم في الهوية . والإسلام السياسي فضلا عن كل ما ذكر يتخذ أشكالا شتى يصعب حصر تياراتها وتحديد
مساراتها ومرجعياتها الفكرية مع وجود روافد أخرى سلفية وظلال شيعية لم يسعفني الوقت للحديث عنها، هذا اضافة إلى جماعة الدعوة والتبليغ التي تجد مرجعيتها في الطريقة النقشبندية المنتشرة في آسيا والتي تجد مركزها في لاهور بباكستان وتتبني العزوف عن الخوض في السياسة وفي الخلافات المذهبية ومن شأنها التورع عن المال السياسي .
ملخص القول أن الإجماع منعقد بين القوى الإسلامية على عالمية الإسلام وأنه ليس محلي النزعة ولا قروي المشرب ولا هو لقبيلة أو عرق أو فئة ومن هنا تكون الصورة النمطية للإسلام عالمية اللحمة كونية الوجهة يرى فيها أتباعه العدل المطلق الذي تنمحى فيه الطبقات والأعراق حيث يجد فيه الإنسان ذاته وسعادته وعزته وأمله في الغد المشرق . تلك هي الصورة الرائعة لما كانت عليه القيم الانسانية المتعالية في الإسلام وقد اثبتت التجربة قابليتها للتجلى في كل العهود التي طبق فيها الاسلام نصا وروحا. فأين نحن من ذلك اليوم وما المطلوب من القوى الاسلامية في موريتانيا على الخصوص رغم ما تحقق من )أسلمة( في البلاد مما يحسب على الصحوة الإسلامية لعدة عقود .
علما بأن رزمة من التحديات والإشكاليات الفكرية ما زالت تطرح نفسها بالحاح على الإسلاميين عموما وعلى الحركة الإسلامية الموريتانية بالخصوص أولها الالتزام بما يمليه قبول الدولة المدنية القائمة على ترسيخ قيم المواطنة والتعاطي الايجابي مع الديمقراطية الغربية وإسقاطاتها وما يفرضه من القطيعة الكاملة مع الفكر الاقصائي والتكفيري ومراقبة المفاوضات التي تجري اليوم في بعض الأقطار العربية من داخل الثورة الحالية بين الغرب الصليبي وقادة القاعدة الميدانيين السابقين وقبل هذا كله فهم مطالبون بحماية اللغة العربية والدفاع عنها بصفتهم أوصياء على الشريعة الإسلامية كما يدعون في بلد يتعاطون فيه مع الحراك الثقافي والاجتماعي ويملكون آليات قوية لتحريك شارعه السياسي وضبط مساره كما أنهم مطالبون بالدفاع عن حقوق المستضعفين والمهمشين والعمل على دمجهم في المجتمع وإعادة الاعتبار إلى كل من عانى
في عهود القهر والاستبداد باسم الدين والاعتذار لهم عن ذلك وأن يناضلوا من أجل محو آثار العبودية حتى لا تبقي وصمة عار في تاريخ بلد شاركوا بكل فخر واعتزاز في صنع تاريخه المجيد وهذا أقل ما تمليه عليهم القيم الإنسانية في حق فئة )لحراطين( العربية المسلمة المتواضعة التي تعرضت لأقسي أنواع الظلم والاضطهاد التاريخي وما زالت ترافقها آثاره النفسية والذي أراه من موقعي أن كل من سكت على هذه الجريمة شريك في صنعها ويتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية علما
بأنها جريمة لا تتقادم بالزمن .
وأخيرا فإنني ألتمس العذر من المتابع الكريم عن الخطأ والنسيان وما أستكرهت عليه من السكوت عن قول ما يراه البعض حقا.