بسم الله الرحمن الرحيم*
لم أكن أفضل الدخول في المساجلات والمناكفات حرصا مني على الوئام داخل الحزب وأرجعت القلم إلى غمده مرات ومرات رغم ما أسمعه من وقت لآخر من كلام مستفز وما يوجه إلي من سهام، لكن تدوينات و مقالات نشرت منذ يومين, بعد المؤتمر الصحفي للمعارضة الديمقراطية والبيان الصادر عنها بتلك المناسبة دفعتني إلى إبداء رأيي في المواضيع المثارة سعيا إلى تجلية بعض الأمور التي أسيء فهمها عن قصد أوعن غير قصد ولتوضيح بعض الملابسات من وجهة نظري.
وسأقدم رأيي من خلال ثلاثة محاور:
1- التضخيم السياسي والإعلامي للموضوع:
لم أتفاجأ شخصيا من كتابات وتدوينات بعض الإخوة المنتقدين علنا للحزب بمناسبة هذا البيان إما لمعرفتي بمواقف بعضهم المسبقة من إشكالات التعدد العرقي والفئوي في البلاد أو لمعرفتي لموقف فريق منهم ثان من قيادة الحزب الحالية، أولمعرفتي للخيار السياسي لفريق ثالث، وقد عودونا جزاهم الله خيرا على إبداء تلك الآراء في الفضاءات العامة من خلال وسائط التواصل الاجتماعي وأحيانا القنوات التلفزيونية، وكنا سنقتنع بخطئنا وبصواب آرائهم في هذه القضية لو كانت مواقفهم أو مواقف بعضهم - حتى لا أعمم - منسجمة مع خط الحزب في السابق, فقد عودونا على التبرؤ من الحزب ومواقفه
فلقد كانت الموجة المتحاملة في أغلبها مدفوعة بالمقاطعين للحزب أوالخارجين على خطه أو الموالين للنظام ولا أنكر وجود مشفقين موضوعيين مخالفين لنا في الرأي لم يقتنعوا أو لم يفهموا....
2- السياق:
لن نجد كبير عناء في تبيان السياق الذي جاء فيه البيان والظروف التي دفعت الحزب إلى التحيز إلى خندق الأطراف الموقعة له.
لقد منح جزء معتبر من الناخبين الموريتانيين ثقتهم لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية في فترتين انتخابيتين وهو ما كرس دور الحزب في الحياة السياسية من موقع الفاعل لا من موقع التابع، من موقع المدرك لموازين القوى المختلفة وأهميتها ومتابعة تحولاتها لا من موقع الجامد الغافل عن معطيات الواقع واتجاهات المستقبل، من موقع الحامل لهموم المواطنين بأبعادها المختلفة لا من موقع المربت على كتف الحاكم والمجاري له أو المزكي أو الساكت -في أحسن الأحوال- عن أخطائه.
من هنا كان تواصل يضع نصب عينيه مستقبل الديمقراطية في البلاد لأن وجوده مرهون بوجودها، ويعتبر معركة الديمقراطية هي أم معاركه، فهي وسيلته الوحيده إلى الولوج إلى كل الميادين وتقديم نفسه للناس وتطبيق بديله في الحكم في بلد ضاق ذرعا بالمفسدين وغصت شوارعه بالفقراء المعدمين...
وحري بنا أن ندرك الموقف والتكتيك والاستراتيجية المناسبة لهذه المرحلة العمرية للحزب فلقد تجاوز مرحلة النشأة والتأسيس لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة الانتشار الأفقي شبه الكامل الذي يحتم عليه تولي السلطة بما تفرضه من إكراهات، ولعل الأنسب له أن يواصل مشوار الانتشار والتمدد في أعماق وطنه الغالي والتموقع المناسب في كل الاتجاهات وفي كل الأبعاد مدافعا عن الحريات ومناضلا عن العدالة الاجتماعية والسياسية وحاملا لهموم المواطنين ومقدما للتضحيات وضاربا القدوة الحسنة في القول والفعل.
ولا أرى شخصيا أن طموحات تواصل هذه يمكن أن تجد طريقها إلا من خلال موقف معارض جدي وذاك مفترق طريق بين الحزب اليوم وبين بعض الآراء الداخلية فيه من جهة، وبينه وبين بعض أطراف "المعارضة" من جهة أخرى.
ولا ينفك الجدل حول البيان عن هذه الخلفية.
وبهذه المناسبة أريد أن أزيل اللبس عن شبهة كثيرا ما يوردها البعض ممن ينظرون إلى الأشخاص انطلاقا من أسمائهم أو انطباعاتهم عنهم قبل أن ينظروا إلى أقوالهم وأفعالهم، هذه الشبهة هي الربط بين الاستمرار في خيار المعارضة وبين إرادة التصعيد والمعارك الصفرية مع النظام، والحقيقة أن خيار المعارضة يكون نقده متفهما في حالة وجود بديل عنه تعرضه السلطة على من يقتنع به أما نقده مع مزاياه المتحققة أو المرجوة في غياب البديل فهو أمر في نظري غير موضوعي، كذلك فإن المعارضة لا تقتضي التصعيد ضرورة كما أنها ليست جريمة، فهي ليست خروجا على (أمير المؤمنين)، بل هي عين النصح له والأمر له بالمعروف ونهيه عن المنكر وإن أي خيانة في أداء واجبها بالنسبة لمن قلده الشعب أمانتها لا تقل خطورة عن خيانة الأمانة بالنسبة لمن تولى أمر الناس.
فأي تقصير فيها هو أكل للمال العام بغير حق لأنها أي المعارضة ممولة من ضرائب الشعب وأمواله.
وعلاوة على هذا الواجب الديني والسياسي والأخلاقي فوسيلة من هو في المعارضة أن يعارض بجدية لكي يصل إلى الناس ويقنعهم بخطإ برامج الحاكمين وتطبيقاتهم له فهو لا يملك أي وسيلة في مقابل من يملكون المصالح المادية والمعنوية، إلا أن يرفع عقيرته ويصرخ بأعلى صوته كي يصل إلى آذان يملؤها ضجيج تزلف المصفقين وصرير أقلام المأجورين وتضليل إعلام الرسميين ومغالطة الفنيين غير الأمناء....
إن المعارضة في موقفها من النظام تقف ثلاثة مواقف:
- أن تناصبه العداء ويحصل هذا في حالات التجاذب الشديد والمعارك الصفرية.
- أن تعارضه بقوة بصفتها منافسا له على الجمهور لا بصفتها عدوا له
- أن تكون موالاة في ثوب معارضة
وإننا في تواصل اليوم نضع أنفسنا في الموقع الثاني فلا نخوض معركة صفرية مع النظام ولا نعتبرنا وإياه أعداء لكننا منافسون أقوياء له ونعد أنفسنا يوما من الأيام بديلا ديمقراطيا عنه، لذلك على إخوتنا أن يفهموا أن الجماهير لم توجه لنا رسالة سلبية حتى ندير ظهرنا لها ونحول استراتيجيتنا نحو مجاملة الأنظمة، كذلك عليهم أن يفهموا أن المنافسة تقتضي الخطاب الواضح المفهوم فأنت لا تتردد في كونك معارضا ولا في أن تحرج النظام، فإذا كنت معارضا على كل حال عليك أن تختار الخط الأكثر جدوائية.
وطعم الموت في أمر حقير -- كطعم الموت في أمر عظيم
ومما هو مستقر في التجارب البشرية أن التنافس -إلى حد الصدام أحيانا- يكاد يكون هو القاعدة المتبعة بين القوة السياسية التي تحكم والقوة الأساسية التي تنافسها على الحكم في المعارضة.
وفي تواصل لم تخرج بياناتنا ولا تصريحاتنا عن اللياقة والمسؤولية ولم نجرح شعورا لا بحق المسؤول الأول ولا أي من أعضاء الحكومة أو المسؤولين.
إذن انطلاقا من أهمية التحول الديمقراطي في البلاد في رؤيتنا الاستراتيجية وحرصا مناعلى خدمة شعبنا وحفاظا على موقعنا الريادي كان تعاطينا مع الشأن السياسي متحليا بالمرونة عندما حضرنا المناسبات السياسية للنظام ولبينا دعواته ووقفنا وإياه في صف واحد عند الجائحة- وأصدرنا بيانات مع غيرنا ممن لا يجمعنا معهم خندق سياسي واحد، وقائما بواجب الأمانة عندما رفضنا أي تدجين أو تزكية لموقف لا يستحقها، ومنافسا عندما رفضنا التقاء إرادات لشلنا وعزلنا على غير جرم اقترفناه.
لقد تغاضينا عن الحصار الإعلامي الذي قابلنا به النظام وتجاهلنا تقديمه علينا من لا يستحق التقديم ولم نقبل الانجرار إلى ردات الأفعال وباختصار فإننا نواجه نظاما لا يقبلنا موالاة ولا يريدنا معارضة، ولكن الشعب الموريتاني هو من يحدد لنا موقعنا وليس النظام ولا الأطراف المنافسة الأخرى....
في هذا السياق كان تحرك تواصل لإيجاد إطار للمعارضة يتقاسم معه بعض القناعات الأساسية والمتعلقة بمستقبل الديمقراطية في البلاد ومواجهة آلة الدعاية الإعلامية للنظام التي أخذت أبعادا من التضليل غير مسبوقة في وقت تزداد فيه الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد سوء.
وغني عن القول أن البيانات المشتركة تشكل الحد الأدنى من المشتركات ولا تعني التطابق الكامل في الرؤى والتصورات إذ لو كان الأمر كذلك لحصل الاندماج بين الأطراف ولتحولت إلى طرف واحد، ثم إن البيانات المشتركة -إذا سلمت من التشويه والدعاية- تكون بمثابة الاتفاقيات التي يقرؤها كل طرف القراءة التي تناسب مصالحه وكانت لنا في تواصل بطبيعة الحال قراءتنا ودورنا في> تعمير< مفردات البيان بما نقصده.
قبل أن نختم سياق البيان لا بد أن أذكر إخوتي أن تواصل منذ نشأته إلى اليوم لم يغلق باب الاجتهاد في المواقف السياسية، ولم يعدم التأثير في المشهد السياسي من خلال مبادراته، وبذلك حافظ على مكانته الأمامية المستحقة , وطبعا لم يكن ذلك كله محل اجماع داخله ، وقد حاول خصومه إذاك وصفه بتجاوز ثوابته الفكرية (دخول الحكومة) وعدم وفائه للشركاء (العلاقات مع المعارضة) وهي أدعى إلى تشويه تواصل من مجرد التوقيع على بيان يقر بتعدد عرقي وفئوي ويدعي مظلومية لأصحابها لا تصل حد المطالبة بالنيل من وحدة البلاد ولا تدعو إلى انفصال, وكما صمد تواصل في الماضي أمام حملات التشويه سيصمد اليوم إن شاء الله
ونستعرض في المحور الثالث مضامين البيان من وجهة نظر تواصل:
إن أهم شيء في البيانات السياسية هي المطالب التي تخلص إليها ولم أر من يعترض على أي مطلب من تلك المطالب المرتبة في ستة نقاط ولكن المحتجين أثاروا إشكالات في متن البيان وسأحاول التعرض لها واحدة واحادة:
1- إن أكثر ما أسال لعاب الأقلام – أو دموعها – هو الكلام عن التعدد العرقي للبلاد بشكل مباشر واستخدام مفردات وصفها البعض أنها تكرس الشرائحية وتدعو إلى الفرقة (الأفارقة السود) (البظان) (لحراطين):
وهنا أقول إن كلمة الشرائحية مصطلح نحته بعضنا في هذه الفترة للنيل من الحزب كلما صدرعنه بيان أو تصريح أو موقف يتعلق بإشكالات الرق أو الوحدة الوطنية دون أن يحدد لنا أصحابه مقصودهم بدقة منهجية.
والذي أره أن مصطلحين من هذه المصطلحات (لحراطين – الأفارقة السود) قد كرستهما بعض رؤى الحزب التي نصت على الأفارقة السود وعلى لحراطين.
أما بالنسبة لمصطلح البظان فهو مصطلح شائع في الثقافة العالمة وغير العالمة في هذا البلد وفي كثير من الوثائق التاريخية للدلالة على المكون العربي للبلاد.
وإنه من المعلوم الاعتراف بتعدد عرقي في البلاد تكرسه مادة من الدستور تتكلم عن المكون العربي وعن المكون الإفريقي بتفاصيله الثقافية
ولم يكن ذلك يعني في الوثيقة القانونية الأولى دعوة إلى التفرقة بل هو إقرار بواقع ليرتب القانون على الإقرار به شيئا.
كما تواتر في القاموس السياسي الكلام عن لحراطين ولم يعترض أحد من الحزب من المهاجمين للبيان على المشاركة بل مساعدة القائمين على تخليد الذكرى السنوية لميثاق لحراطين بل إن من المهاجمين من ظل في الصفوف الأمامية باحثا عن موقع له في التشكيلات القيادية، فمتى كان ذلك تفرقة يجلد عليها الحزب هذا الجلد.
في هذا الإطار يجب التسليم بالواقع الاتني والفئوي للبلاد والتعامل معه على أنه واقع لايجدي نفيه ومحاولة التستر عليه خلف النظريات المثالية فذالك لا يقيم وحدة صلبة وكم رأينا الدول التي كانت تفرض وحدة مصطنعة بالقوة كيف تمزقت عند تعرضها لأول محنة.
فلا ضير في أن نقر بتعددنا الثقافي والعرقي والفئوي ونبحث عن حلول لمشاكلنا فالدول التي فيها تعدد ديني يذكره ساستها بدون حرج وكذلك الدول التي فيها تعدد طائفي (السني – الشيعي) وليست موريتانيا بدعا من ذلك.
وغاية الموقعين على البيان إثارة إشكالاتهم والبحث لها عن حلول تحت سقف الدولة الموريتانية الواحدة ، فلا داعي للتشنيع.
أما بالنسبة لوجود مظلوميات مسجلة على مجهول أوعلى الأحكام المتعاقبة أو على التاريخ فلم أجد من يكابر في ذلك وبالنسبة لنصوص الحزب فقد نصت " رؤية تواصل للوحدة الوطنية " الصادرة سنة 2014 على مايلي :
"ولأن المعالم ليست المنطلقات ويلزم فيها التحديد والتفصيل فإننا في (تواصل) نرى ضرورة تجاوز العموميات والنص على ما يلزم وينبغي في قضية يتعلق بها مصير هذه البلاد وأهلها ..
هناك ضرورة للإنصاف والإقرار بأنه في هذه البلاد وقع ظلم وتهميش لعدد من المكونات وعلى رأسها ضحايا الاسترقاق ومجتمع الحراطين، كما عانت مجموعات اجتماعية أخرى في مختلف الأقطاب العرقية مظاهر من هذا التهميش والازدراء مثل لمعلمين وغيرهم؛ و قد عرف المكون الزنجي بدوره قدرا من الحيف والتهميش خصوصا بعد سنوات الألم 89 و90 و91. من هنا فإن الترميم المعنوي القائم على الاعتراف ثم الاعتذار مطلب و ضرورة و هو ممهد لغيره من جوانب الترميم الأخرى."
2- يرى بعض الكتاب أننا حملنا بعض المكونات مسؤولية مآسي المكونات الأخرى وليس هذا في البيان لا تصريحا ولا تلميحا، كل ما في الأمر أن هناك مظالم بعضها بفعل سياسات الأنظمة المتعاقبة وبعضها بفعل ظواهر تاريخية ويجب على السلطة القائمة اليوم أن تتصدى لمعالجة هذه الإشكالات
ولم يتضمن البيان هجوما على أي مكون ولا تجريما له.
وهناك فكرة لم يفهمها أغلب من قرأت لهم وهي الكلام عن مكون البيظان، فإدراجه كان للابتعاد عن التفسير الخاطئ للبيان فالتهميش ليس قاصرا على مكون دون آخر ولم يكن المقصود به الفئات الاجتماعية من البظان فحسب، فهناك قبائل من البظان لم تستوف حقها من التعيين السياسي ومن فرص الدولة وهناك عدم تكافئ في الفرص بين القبيلة الواحدة و الحقيقة أنه من المطلوب قيام نظام ديمقراطي يتيح عدالة اجتماعية.
وبالمناسبة لم تكن الأطراف الموقعة معنا متحمسة لهذه الفكرة لأنها تراها تمييعا لقاضياها (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) أنتم مهمشون لكن غيركم مهمش، في النهاية الكل مهمش ما لم يأت نظام سياسي عادل.
3- استشكل البعض كلام البيان عن التصويت على أساس الهوية ليقولنا ما لم نقله وكأننا لسنا مؤتمنين على الهوية الإسلامية.
هذا مصطلح شائع يقصد به التصويت على أساس العرق واللون وقد تعرض له البيان في التشخيص ليبين مدى الخطر الذي يتهدد الوحدة الوطنية حيث يصوت الإفريقي الأسود لصالح المرشح الإفريقي الأسود ويصوت الحرطاني لصالح الحرطاني ويصوت العربي للعربي بغض النظر عن البرامج الانتخابية.
إذن رحمكم الله لم ندع ولم نقر بهويات غير إسلامية في البلد لكن في مفهوم الهوية أبعاد أخرى غير الدين.
في الختام أشكر الإخوة جميعا الذين دونوا وكتبوا وآمل أن يكون المبتدأ والمنطلق هو مصلحة الحزب والبحث عن الحقيقة وليس اغتنام الفرص وتحين المناسبات للفت في عضد القيادة وإرباك مناورتها في وجه خصومها ومنافسيها فذلك ما أربأ بإخوتي عنه.
أقلوا عليهم لا أبى لأبيكم من اللوم == أو سدوا المكان الذي سدوا
والله من وراء القصد.
الرئيس السالك سيدي محمود