أعرف دبي جيدا، بكل تفاصيلها العمرانية؛ ابتداء من برج العرب وجميرا... إلى القصيص؛ ومن الحمرية إلى العوير؛ بل أعرف معالم شهيرة ابتلعتها المدينة بشهيتها المذهلة للتطور والعمران؛ مثل دوار الشعلة ودوار الصقر ودوار المركز التجاري... حيث الانطلاق اليوم إلى "عالم أكسبو دبي 2020" المبهر.
والحقيقة أن رحلتي إلى "أكسبو دبي 2020"، مختلفة عن رحلات كل زوار هذا الحدث العالمي، أو أكثرهم؛ إذ غرضها الأساسي زيارة الجناح الموريتاني، الذي وجدت نفسي فيه مع أبي الطيب: غريب الوجه واليد واللسان!
البداية
عندما رأيت وسمعت العناية العظيمة والأموال الطائلة والبذل بلا "حساب" من أجل مشاركة موريتانيا في هذا المعرض، وأن هذه المشاركة ستغير الحياة في بلادنا، وتُعلم وتُغذي وتُداوي كل مواطن حتى ينسى ما يعانيه من بلاء الجهل وعضة الجوع وألم المرض... حينها عزمت على مواكبة هذه المشاركة المهمة.
وذلك لأني أعرف أن معرض "أكسبو العالمي" البالغ عمره 170 سنة، كان من معروضاته ـ مثلا ـ اختراع المصباح الكهربائي والهاتف والآلة الكاتبة ومسجل الصوت والتصوير بالأشعة السينية والتلفزيون والفاكس والرجل الآلي... وينظم اليوم في موضوع التكنولوجيا واختراعات الذكاء الاصطناعي، تحت شعار "تواصل العقول وصنع المستقبل"!
إذن ما ذا ستقدم لجنة معالي وزيرة التجارة والسياحة في هذا الخضم أكثر وأنجح مما قدمته في سوق "أمسيد المغرب" بانواكشوط؟!
لا ريب أنه شيء باذخ حقا...
ولهذا بدأت رحلتي إلى دبي من هنا؛ من أكناف نفس الوزارة، وتحديدا من موقعها على الشبكة العنكبوتية، حيث يتوفر موقع الوزارة، الخالي من التواريخ (المواقع الحكومية الموريتانية مثل صخرة "انغادي" تظل كما نشأت!) على ثلاث صفحات فيها نفس المواد والمعلومات والصور، بلا زيادة ولا نقصان؛ أي صفحة واحدة مكررة ثلاث مرات! ولكن لم أجد شيئا عن أكسبو 2020 وخاصة عن المشاركة الموريتانية!
لم يكن هذا عائقا كبيرا. لذلك طرت مباشرة إلى دبي، أي من عالم إلى آخر!!
وقبل الوصول إلى هناك، قلت لنفسي: لا ريب أن الجناح الموريتاني سيكون متميزا. ففضلا عن الميزانية الضخمة والبعثة الكبيرة، فقد أهدى وباء "كوفيد 19" وقتا عريضا للإعداد والإتقان؛ لأن المعرض كان مقررا افتتاحه السنة الماضية، وذلك سبب اسمه "اكسبو 2020"، فأرجئ بسبب الوباء اللعين.
**
هذه دبي، بأبراجها العالية وبنيتها الحديثة. والمدينة الجديدة في مدخلها الجنوبي تتلألأ أضواؤها الملونة وأعلام دول العالم ترفرف في جنباتها النظيفة. هذا هو أكسبو2020، الذي يستمر 6 أشهر، يؤمل أن تجذب 25 مليون سائح إلى هذه المدينة التجارية الجميلة.
أبحث عن الجناح الموريتاني؛ بحثا ذاتيا متأنيا، يتوخى رؤية أكبر عدد من الأجنحة، خاصة من دول النظائر والأشباه!
وأحيانا أسائل زائرا، سؤال بحث غير خال من السبر و"التقييم": أين يقع الجناح الموريتاني من فضلكم؟
فيأتي الجواب بادئا بطلب إعادة السؤال: تقصد موريشيس؟، وفي حالات أكثر شيوعا واختصارا: No idea!
طبعا كان بإمكاني تجنب كل ذلك واتباع الأدلة الكثيرة والواضحة إلى أركان وخبايا المعرض.
مررت بأجنحة كثيرة بعضها عجيب لحد الإبهار، والبعض بسيط ولكنه متقن؛ والجامع بينها وجود أفكار واضحة وأنشطة ومجسمات تحسن التعبير عن البلدان المعنية؛ تجسد مسيرتها الواقعية وقدراتها الذاتية وترسم رؤاها للمستقبل، موصولة بنماذج وحقائق جذابة عن تراثها وثقافتها...
عاهة اكسبو2020!
وفجأة اكتشفت أني في تيه سيئ العاقبة، إذ دلفت إلى ما بدا جناحا فخما نشطا، فإذا هو عدوي الصهيوني أمامي مباشرة، يا للهول!!
فوليت فرارا من رجس التفاصيل؛ وملئت غضبا وقهرا... وخالطني ـ وأنا أشعر بالغثيان ـ ندم على الزيارة وأسى على حال أمة العرب!
هنا قررت الاسترشاد بالدليل الرسمي، لأختصر الجولة فأدخل مباشرة في "حرز الوطن": في الجناح الموريتاني... وأخيرا بصرت بأشياء مألوفة!
هل هذا هو جناح الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟
يبدو ذلك من شعاره الجميل ومن العَلم... وحتى من الوجوه... لكن النشاط مريب!
كان النشاط رقصا عشوائيا، لا ينتمي لفن ولا مدرسة ولا أي تصنيف... وكانت المعروضات محمودة لله، تطغى عليها المشغولات اليدوية العتيقة!
أما أم الكوارث فهي أن الأدلة المكتوبة عن موريتانيا، والمقدمة للمُضِيف، ولجميع المشاركين في المعرض، ولزواره الفعليين والافتراضيين، والمودعة لدى هذا المحفل العالمي إلى ما شاء الله، تتلخص في ثلاث معلومات مركزية، لا أعلم لأكثرها أي أساس من الصحة ولا حتى من الفائدة:
الأولى: "الدعوة لاكتشاف الحوض الشرقي والقصر القديم المسجلين بقائمة اليونيسكو للتراث العالمي".
ويجدر هنا أن توجه هذه الدعوة الغريبة للموريتانيين أولا ولليونيسكو ثانيا، لأنه لا علم لهم بشيء من هذا...!!
الثانية: الدعوة "للاستمتاع بمشاهدة قارب سباق حقيقي"، من القوارب التي "تشتهر موريتانيا بسباقها"!
والحقيقة أن الموريتانيين هم الأحوج إلى هذه المتعة التي لم يعرفوها، أو على الأقل لم يشتهروا بها!!
أما الثالثة فجاءت ـ على علاتها ـ سليمة ومعقولة، حيث أن "غيدي ماغا" حقا تحتضن أرضها الجميلة أنواعا من النباتات والحيوانات البرية الفريدة.
السيد الشريب الثرثار!
وعلى أي حال فقد اتضح لي أن هذه الأيقونات الثلاث ـ الحقيقية والمختلقتين ـ ليست شيئا بالمقارنة مع أيقونة الجناح التي لا منافس لها، والتي يتمتع بها، كل المتعة، القيمون على الجناح ومن "يسمع لهم".
هذه الأيقونة رجل، على الأرجح! من مواطني جمهورية ساحل العاج الشقيقة، يدعى تحببا: Bravador استأثر به الجناح الموريتاني واعتمد عليه منذ البداية، وبذل له المال والهدايا والتذاكر والإقامة في أفخم فنادق دبي!
وعندما تدبرت أمر هذا الرجل الذي "ألبس الدراعة" وجيء به مكرما، لم أجد لوجوده غير تفسير واحد هو أنه "تعويذة" وذو أسرار خارقة، من شأنها أن تعوض فشل إعداد الجناح الموريتاني، ورداءة عمله. فهذا "البرافدور" لا يتحدث بغير فرنسية قريبة من مستوى فرنسيتي أنا! وهناك في أكسبو 2020 وفي دبي عامة، وفي الشرق الأوسط بشكل أعم، لا يفهم أحد الفرنسية ولا يتكلمها ولا يسعى إلى ذلك!
على أنني تساءلت وأنا ألَملِم خيبتي من نتائح تحضير المشاركة الموريتانية وتكلفتها الباهظة: لماذا لم يستعن الإيفاريون أنفسهم بمواطنهم "المعجزة"، رغم أن جناحهم بدا لي جيدا ولا يقارن بجناح بلادي... المهيض؟!
والذي يظهر، والله أعلم، أن الشيخ "برافدور" هذا إنما "فاز" به المسؤولون الموريتانيون، ولاسيما المسؤولات! بما أغروه به من العطايا و"كرم الضيافة".
لكن الرجل به "زروگية" واضحة؛ حيث يكتب ويصور على صفحته ما لا يرغب المسؤولون في نشره؛ من قبيل أنهم منحوه، استهلالا، هاتفا ثمينا وألفين من الدولار الأمريكي نقدا، وأشياء أخرى عبر عنها بـ100 كأس من الشاي! ويبدو أن ذلك لم يكن إلا "ملح يد" (عربونا) لعقد معه، تؤكده تذكرة السفر والإقامة الباذخة في دبي اللذين كشف هو نفسه بالحرف والصورة عن تفاصيلهما؛ ومنها زق الخمر المفتوح بين يديه وشفتيه، ولا جرم أن موريتانيا، التي تمقت الخمر وتحظرها شرعا وطبعا... تدفع الثمن!
وقد بلغني، وأنا أشاهد تهريجه كنجم للجناح الموريتاني... أن معالي الوزيرة غير موافقة أو غير راضية أو نافية... أن يكونوا تعاقدوا مع هذا السيد الأعجوبة! وتلك طامة كبرى قال فيها الشاعر:
فإن كنتً لا تدري فتلك مصيبة * وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم!
**
طبعا "جلب الاستثمارات" هو لدينا عنوان ما لا يوجد له عنوان! وهو مبرر قرارات ومشاريع ونفقات تخدم الفساد وتحارب الاستثمار نفسه... وهو مبرر تبديد أكثر من مليار و200 مليون أوقية في مشاركة أساءت أكثر مما أحسنت...
وفي النهاية، على كل حال، إذا عادت هذه المشاركة بأي استثمار طبيعي ينفع بلادنا ولا يضرها فاجعلوه في عيوننا... أو في جيوبكم الخاصة!!
م. محفوظ أحمد كاتب صحفي