تابعت ردود الفعل على ما أعربت عنه من نيتي اعتزال الصحافة، و ليس السياسة، و قد كانت تحليلات بعض الصحفيين تؤكد أن الخروج من حظيرتهم هو الخيار الأصوب.. فأحدهم كتب “كم دفع لحنفي ليعتزل الصحافة” و آخر “كتب أن عزيزاً نجح في إبعادي عن السياسة بواسطة صديقه يحي جامى” .. لا أفهم علاقة الموضوع بالديكتاتور الغامبي، و لا بما نسجه خيال هذا المدون، الذي اعتقد أنه أولى مني بالتفرغ للكتابة الأدبية.
اتصالات كثيرة وردت عليّ من سياسيين و مثقفين و صحفيين داخل البلاد و خارجها، ما بين مؤيدٍ حجتُه أنني عرضت نفسي للخطر مرات، و أن هذا البلد لا يستحق التضحية ما ركن أهله لجنرال غبي يسومهم خسفا.. و مناشدٍ لي بالعزوف عن هذه النية، حجته أن النظام الموريتاني الفاسد “لم يجد من يعكر له صفوا” فترة غياب تقدمي، فالوقت قاضٍ بالاستمرار في مجاهدته، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
كما كان لمدونين ومدونات أجلّهم و أقدرهم حظهم من مناشدتي بأن “لا أترك الجواد وحيداً”.
و الحقيقة أنه لا شيء يغري بمهنة الصحافة في موريتانيا: نظام يكمم الأفواه و يستأثر بالفاسدين من أرباب المهنة، و يشجع على الكتابة بالأمعاء و المصران الغليظة.. و صحافة هي السخافة و الصفاقة بعينها، لا تظاهر مظلوما و لا تعاضد محروما و لا تآزر مكلوما.. اكذب من وزيرها محمد الأمين ولد الشيخ و أكثر منه أخطاء إملائية.. لا تتقن صياغة خبر و لا تحرير تحليل، و لا تشعر بغير الخزي و أنت تنتسب لها.. ونقابات لا تضع هِناء مواضعَ نَقَب، و روابط لا ترابط في ثغر و لا تحمي حقيقة و لا تدافع عن ذمار.. و نخبة تسيء التعامل مع الإعلام و التعاطي معه.. فمن بين الاحزاب التي تحتكر السلطة أو تسعى للوصول إليها و احتكارها لن يترك لك الحق صاحبا.. و إن جانبت الحق لم يترك لك ذلك ضميرا..فهو إذن الخيار بين إعدامين.!
لا شيء يغري فعلا في هذه المهنة التي يهضمك الدهر فيها حتى يقال “علي و معاوية”، و لكنها ليساري مثلي، يتوق لبلد تبوء فيه عَرار بكَحل، و تتساوي فيه الناس كأسنان المشط، و لا تتفاوت كأصابع الكف، و يتحقق فيه رفاه و رخاء مادي، و يختار فيه المحكومون حكوماتهم، تكون الوسيلة الأنجع في مقارعة الاستبداد و الحيف المجتمعي، هي الكتابة.
لقد تعرضت منذ الانقلاب على سيدي ولد الشيخ عبد الله لما لا يتصوره أحدكم من الإغراءات و الوعود، و لا أزال حتى اللحظة آقدع أنوف الشفعاء، و أكسع أقفية الوسطاء.. و لم يسبق لي أن كشفت عن شيء من ذلك، فصدور الأحرار بطون الأسرار.. وفي إحدى محاولاته معي قال لي الرئيس عزيز نفسه “إنه لم يفكر يوما في إصلاح الصحافة إلا فكر فيّ”.. و كال لي من معسول القول ما لا يغرني من ثعلب مثله.. و قال لي ابنه المرحوم احمدو إنه وقع عريضة المطالبة بإطلاق سراحي، و كان معجبا دائما بما أكتب، و أنه لا يحترم صحفيا في موريتانيا غيري، و لا ازال احتفظ بأدلتي علي كل ذلك..
لقد تلقيت من العروض ما لو عُرض على صحفي آخر لانشقت مريطاءه.. و لكنني كنت مصرا على أن أمارس حريتي في نقد من يقرر بالنيابة عني مصيري و يخطط لمستقبلي.. و لم أرض الدنّية في مبادئ و أخلاقي المهنية و التزامي أمام قرائي.. و أعتقد أن من يتهمونني في قناعاتي لن يقدموا دليلا على ذلك.. أما أنا فحين أقرر الخوض في التفاصيل سيكون لي ما يلقمهم حجراً.. و لو أنني قبلت مطالبهم لما لكان لهجرتي عن بلادي و بعدي عن أسرتي مبررا، و لكفوا أنفسهم مؤونة تجنيد أولاد الجريب و إغراء بلطجية بحرقي و أسرتي، و اختراق موقعي و ايميلاتي.
لا شيء فعلا يغريك بمهنة الصحافة في ظل حكم ولد عبد العزيز إن اخترت الانحياز للوطن، غير أنني لست ممن يفرّ من الزحف، و يترك الحَصَان الرّزان أسيرة نزوات مغتصبها.. و سأكون يميني النوازع حتى اتمثل هنا قول المعتمد ابن عباد:
ما قمت قط إلى القتال وكان من أملي الرجوع
شيّم الأُلى أنا منهم و الزصل تتبعه الفروع
قراري الأخير: لن اعتزل الصحافة ما دام ولد عبد العزيز يحكم البلاد.. و ما دامت معارضة العاجزين تتساوك على مشارف الغد المؤجل.. غد الحرية و المساواة و العدالة.
و ليمت منكم من شاء بغيظه..!