أحد الشعراء العرب لهج بحمد الله على أن نشبت حرب عٓوَانٌ في عشيرته، لا مناصَ من أن يتيتّم فيها الأطفال و تثكَل ربات الحجال.. و لكن لا يهم، فحبيته أم ثابت التي لم تكن تغادر خدرَها خرجت منه مذعورة كالغزال الشارد، حينما استعرت وغى الحرب و فارَ تنّورُها، فرأى الشاعر من محاسنها ما سحر قلبه و خَلَبَ لبّه، فأنشأ يقول: جزى الله يوم الرّوع خيراً فإنه. أرانا على علّاته أم ثــابت أرانا رُبيبات الخدور و لم نكُن. نراهنّ إلا عن بُغاة بواغت ربما يشبه موقف هذا الشاعر الجاهلي كثيراً ما حدَث معي في مطار بيروت، حين انقلبت المحنة فيها مِنحة.. لقد شكرت الله على ما حدَث، حيث ساعدني في التعريف بعروبة بلادي، التي تعودت أن يجفوها القريب قبل الغريب.. و شكرت الله لأنه كشف لي عن الوجه المتحضر الجميل للبنان، التي أمطرني صحفيوها و مثقفوها و نشطاء مجتمعها المدني بوابل من رسائل التعاطف و الاعتذار .. عانيت فعلاً من فظاظة شرطة المطار، غير أن ذلك الوجه المتجهم كان خلافَ وجه بيروت المتهلل الأسارير، الذي طالعته في محيّا سائق التاكسي الذي أقلني من المطار، ليغمرني بطيبته و مجاملاته، مؤكداً لي أنه يخجل من أن يأخذ ثمن “التوصيلة” من ضيف على لبنان، لولا أنه ظل ينتظر في طابور سائقي التاكسي، ليجني هناك ما يسدّ به رمق صغاره الجياع.. و لا هو الوجه الوديع لسائق التاكسي “وديع”، الذي صحبني في جولة في بيروت.. و لا هو وجه تلك الفتاة المتحجبة التي عرضت عليّ التبرع لملجأ أيتام، ثم طفِقَت بعدها تحدثني عن لبنان، و تنصحني بزيارة البقاع و بعلبك و زحلة، حين يشمّر الصيف عن ساقه و يخرج الناس لاستنشاق الهواء و أكل التّبولة.. و قد استفاضت في حديثها عن زاوية صوفية لرجل صالح من القرن الخامس عشر يدعى ابن دمشق العراقي الشافعي، حاولت الحكومة هدمه لأنه يقع في وسط المدينة غير أن الجرافات تحطمت و هي تحاول دكّ مزار الولي الصالح. حسب ثرثارتي المتحجبة، اللتي لا يخفي وجهها المرهق ما ناله من عسف الحياة و خسفها.. ناولتني صديقتي الجديدة سيجارةً رخيصة فاعتذرت عنها، فشرعت تدخّن في نَهَم يتعايش فيه حجابها و سيجارتها سلمياً، كما تتعايش ثمانية عشر طائفة دينية في لبنان. أسفرت لي حادثة لبنان عن وجه آخر غير ذلك الوجه المكفهّر لشرطة المطار.. فقد أثارت الزنابير من أوكارها، فاتصل بي مواطنون بسطاء ليعتذروا لي عما حدث.. بعضهم بدا متشنجاً و كال الشتائم لشرطة بلاده، و بعضهم حمّل المناهج التربوية مسؤولية جهل بعض اللبنانيين بموريتانيا.. و بعضهم قال ما قاله الإعلامي سامي كليب من أن ذنبنا أن لا نملك ءابار نفط.. أما أنا فاعتقدت أن الذنب اقترفته الحكومات العسكرية التي تعاقبت على حكم بلادي فجهّلتها و جهّلت بها، تناولت الحادثة قنوات لبنانية و عربية، و نشرت عنها صحف و جرائد و منصات ألكترونية، و كتب عنها و دوّن كتّاب و مثقفون، و لكنها عكست في كل تفاعلاتها نضج الإعلام اللبناني و نخبويته. و مما شدّني كثيرا المعالجة الرائعة للإعلامي اللبناني الكبير زافين قيومجيان في برنامجه “بلا طول سيرة” على قناة المستقبل، و قد تشرفت بمهاتفته و بربط علاقة صداقة معه، بعد طول متابعة لبرنامجه الأول “سيرة و انفتحت”. ما حدث لي في مطار لبنان قد يحدث في أي مطار آخر.. غير أن الطريقة المتحضرة التي تعامل بها المجتمع اللبناني معه يندُر أن تحدث في غير لبنان، خصوصا في المجتمعات العربية التي لا تزال تسيطر عليها ثقافة البداوة.. و سأعرض صفحاً عن حجة الأمن اللبناني الواهية، و المجانبة تماماً للصواب، فحين ينتقل جواز سفر بين أربعة أشخاص، يقلبونه في أكفهم، دون أن يميزوا هل هو لموريتاني أم تانزاني، فارمِ بهم في كتّاب يتعلمون حروف الهجاء’ لأؤكد أن لبنان استثناء في الدول العربية.!