لم يَكن اعتقال الداعية السعودي سلمان فهد العودة وزميله عوض القرني مُفاجئًا، بل مُتوقّعًا، في ظِل حالة الاستقطاب السياسي والقَبلي التي تَعيشها منطقة الخليج حاليًّا، وإصرار السّلطة بقيادة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، والحاكم الفِعلي للبلاد، استخدام القبضة الحديديّة لتَثبيت حُكمه، وإجهاض أيّ مُعارضةٍ، سواء كانت في أوساط ما يُطلق عليهم عُلماء الصّحوة، أو حتى أعضاء في الأسرة الحاكمة.
من الواضح أن القيادة السعوديّة تتبع النّهج الذي اتّبعته نظيرتها السوريّة التي عارضتها هذه القيادة منذ البداية، وأنفقت مليارات الدولارات من أجل تأجيج الاضطرابات، وإسقاط حُكم الرئيس بشار الأسد طِوال السنوات السبع الماضية.
ومن المُفارقة أن الأطراف المُتخاصمة في الأزمة الخليجيّة المُتفاقمة حاليًّا، تبنّت سياسةً مُشتركةً في اليمن وسورية وليبيا والعراق قَبلهما، وتدخّلت في شُؤون هذه الدّول الداخليّة بالمال والسلاح، والآن تُمارس التوجّه نفسه ضد بعضها البعض، ومن يُتابع الحَملات الإعلاميّة المُتبادلة، وتبنّي المُعارضين ودعمهم يَجد البُرهان الدّامغ.
تضاربت الآراء حول الأسباب الحقيقيّة لاعتقال الشيخين، ولكنّها اتفقت على أمرٍ واحد هو اتخاذهما مَوقفًا أقرب إلى “الحِياد” في الأزمة الخليجيّة، وعدم انحيازهما إلى السّلطة في بلادهم في خلافها مع دولة قطر، فالحِياد ممنوعٌ في نَظر السّلطات السعوديّة التي تتبنّى نظرية الرئيس الأمريكي السابق التي تقول ليس هُناك غير خيارٍ واحد “فإمّا مَعنا أو ضدنا”.
مُقرّبون من الشيخ سلمان العودة، وبَعض حسابات مُغرّدين آخرين رجّحوا أن تكون التغريدة التي كَتبها الشيخ على “التويتر” بعد اتصالٍ هاتفي من قبل أمير قطر مع الأمير بن سلمان، ولي العهد، هي التي جَعلت كَيل النّظام السعودي يَطفح وأدّت إلى الاعتقال.
الاتصال الهاتفي الذي أجراه الشيخ تميم بن حمد مع الأمير محمد بن سلمان، كان من المُفترض أن يُؤدّي إلى اختراقٍ كبيرٍ في إيجاد حل للأزمة الخليجيّة مع قُرب إكمالها المِئة يوم، الأمر الذي شَجّع الشيخ العودة إلى إبداء تَرحيبه بها، وفَرحته في إتمامها، عبّر عَنهما في تغريدة على “التويتر” قال فيها “ربنا الحمد لا نُحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. اللهم ألّف بين قلوبهن لما في خير شعوبهم”.
من سُوء حَظ الشيخين العودة والقرني، وربّما بعض الشيوخ “الحياديين” الآخرين الذين يَقفون في طابور الاعتقال، أن المُكالمة التي من المُفترض أن تُساهم في فَتح أبواب الحِوار تمهيدًا لحَل الخلافات بين الدولتين الشقيقتين جاءت بنتائج عكسيّةٍ تمامًا، بسبب مَعركة كَسر الإرادات بين الطّرفين، ورفض قطر الإذعان، وإصدارها بيانًا انطوى على الكثير من التّحريف بعدم القَول صراحةً أن الأمير تميم هو الذي بادر بالاتصال، ودون الإشارة إلى التنسيق مع الرئيس الأمريكي، حسب وجهة النّظر السعودية.
المُغرّدون السعوديون المُوالون لسُلطة بِلادهم، والمُوجّهون من قبل أجهزتها، شَنّوا هُجومًا شَرسًا على الشيخين، والعودة بالذّات، وبرّروا اعتقاله بأنّه يَعود إلى عَدم إظهار ولائه المُطلق لبلاده، والوقوف في خَندقها في هذه الأزمة، إلى جانب توصيفات أُخرى نتجنّب ذِكرها في هذا المكان.
اعتقال الشيخين، وقَبلهما الأمير عبد العزيز بن فهد، لاتخاذه مَوقفًا مُماثلاً من الأزمة الخليجيّة وتَوجيهه انتقاداتٍ حادّةٍ للشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، أقرب الحُلفاء للأمير بن سلمان في حَرب اليمن، وضد قطر، خُطوةٌ تَنطوي على نوايا عِقابيّة شَرسة ضد كل من يُريد أن يُغرّد خارج السّرب السعودي الرّسمي، أو حتى يَقف على الحِياد، مَهما علا شأنه ومَركزه ومكانته في الأُسرة الحاكمة أو المُجتمع السعودي.
إنها سياسةٌ خطيرةٌ غير مَضمونة العَواقب، ربّما تُعطي نتائج عكسيّةٍ، أولها زعزعة استقرار المملكة، وتأزيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وما يَجري قد يكون البداية لما هو أخطر إذا لم يتم تطويق الأزمة بسرعة، وهذا ما نَشك فيه.
“رأي اليوم