بقدرما يضيف المشهد السياسي من التشويش الموجود بالفعل في البلاد، يصبح أكثر حركية وتضليلا للمراقبين الأجانب، ويعكس علامات مخيبة للأمل وصادمة للنفس بالنسبة لنا. لهذا يكون واجبنا محاولة الإسهام، عبر العناصر التوضيحية التالية، في تسليط الضوء على العديد من مواقف مواطنينا الذين يظهرون بعض الحيرة في السياق الحالي لبلدنا.
بالنسبة للسكان المنحدرين البادية، فالكلمة المرادفة للتغيير عندهم هي "الرحيل" الذي يلازم تغيير البيئة، والمظاهر الطبيعية، والموارد. فالرحيل الأبدي، يوفر في كل مرة موطنًا جديدًا، وحتى لو كان مؤقتًا، فإنه ينضاف إلى قائمة الذكريات التي يحتفظ بها الشعر والأغاني العاطفية. لذلك نحن متقدمون على العالم العربي، الذي لم يكتشف فضائل إلا في عام 2011؛ والربيع العربي لا يعدو كونه مجرد نسخة وحيدة من موسم الشتاء (أو الخريف) عندنا إذ يوفر الفرصة للاستمتاع بالمراعي والحليب ونضارة الليالي الممطرة.
من ناحية أخرى، فإن المستوى المتدني لثقافة السياسة والديموقراطية الذي يعاني منه مواطنونا ونخبتهم الذين يلزمونهم بمنطق غير موضوعي بدلاً من التفكير العقلاني والموضوعي الذي يقوم على مقارنة البرامج والأفكار. هنا يتم الخلط بين رئيس الجمهورية ورئيس القبيلة أو الأمير الذي لا تتيح السلطة انتخابه أو فصله، إلا عن طريق العنف، وخاصة الاغتيال. بذلك تكون الانقلابات نسخة محدثة لاستخدام القوة الموروثة من الثقافة القبلية والأميرية.
والقوة النارية التي يمتلكها الزعيم القبلي والأمير هي احتكار استخدام البئر لأن الماء هو المصدر الرئيسي للحياة. فالذي "يمسك" البئر، يمسك رقاب العباد ويمارس عليهم سلطة الحياة والموت. ووفقًا لفهم الرئيس، غير العقلاني للأسف، وحتى في الذاكرة الجمعية المشحونة طبعا بخيبة الأمل، فإن البئر القديم يندمج مع ميزانية الدولة والاكتتاب والامتيازات العمومية الأخرى.
وأعظم الشرور التي يمكن أن يعانيها أي شعب، وفقًا لعلماء الاجتماع وعلماء النفس، هي فرض نظام يتناقض مع قيمه. بذلك فقد عشنا العذيب الجماعي منذ عام 1978، وبشكل أخص منذ عام 2009. فقد عشنا لمدة 10 سنوات "ما لا يتصور" على الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية لدرجة حرماننا من الموارد المشتركة لبلدنا. فقد تحول مسير البئر إلى حارس يقوم باستخدام المياه لتلبية احتياجاته ونزواته الشخصية.
إن الحماس والثورة والاندفاع نحو المرشح غزواني الذي وعد، من خلال خطابه التدشيني، بالتناوب أو الرحيل، يبرر مشاعر الرجال والأحزاب السياسية، ويفسر جيدًا الأمل في المصالحة بين الدولة من خلال الحكم العادل، والقيم النبيلة لبلادنا وشعار دولتنا الحديثة.
لم نحتجْ بعدُ إلى موقف محسوم، لأننا يمكن أن نظل في وضع الانتظار والمراقبة حتى يصبح المشهد أكثر قابلية للقراءة. هنا يكون من الأفضل طرح أسئلة تبدو وجيهة"
أولا: هل سيكون المرشح غزواني رجلا سياسيًا مقتنعًا بضرورة إطلاق مسار ديمقراطية حقيقي وحازم لتطبيقه، أم سيتصرف كخبير استراتيجي عسكري يتعجب للحظة من المشهد المتعب ويقتصر على خطاب القيم والأفكار التي تتناقض مع ولايتين مع نتائج كارثية؟ هل لديه برنامج معلن لإقناعنا وآخر غير تحت الطاولة، أساسي وأكثر تصميم؟
ثانيا: ما الضمان الذي سيتعين علينا تجنبه على حساب هذا الموقف الذي يتسم به الرجال الأذكياء، كما فعلنا مع المجلس العسكري الأعلى التي صرح أحد أعضائها علنًا في خضم الحملة الرئاسية لعام 2007، قائلا «سيُنتخب سيدي، لكنه سيبقى في السلطة سنتين فقط»؟ هل سنخدع مرتين بنفس الطريقة عندما نتظاهر بأننا أكثر ذكاءً من الأبله الذي يعضه الثعبان مرتين من جحر واحد؟
لدينا ما يبرر التفكير في أنه، حتى لو كنا غير متحمسين، يجب علينا أن نثق في تعليم وثقافة الرجل الذي يقترح قيادة بلادنا عبر الأمواج، وهو ما يدعي أنه حتى من النسيج الوراثي والبيئة الاجتماعية المانعة من خيبة أملنا. لكن التاريخ سيخبرنا، وعلى أي حال، لن ينتج أبدًا نظامًا أسوأ من النظام الذي كان يسيء إلى بلادنا منذ أكثر من عشر سنوات. إلى مَن نميل إلى أن يقودنا بشكل جيد أو أن ننسى أن سوء التحالفات، وممارسة الشيك الأبيض لا يمكن إلا أن تولد خيبات الأمل وثورات أكثر عنفاً.
سبب آخر يستدعي الحذر في استخدام الشيكات البيضاء هو أن احتياطات البلاد غير كافية أو غير موجودة: العجز المالي، العجز في ميزان المدفوعات، الديون المفرطة، التآكل النقدي وضعف النمو. البئر جافة وتستغرق بعض الوقت لسقي بلد عانى العطش لأكثر من عشر سنوات.
سيتعين على الرئيس المنتخب التعامل مع صعوبات إدارة ازدحام المرور بذكاء والالتفاف على بئر تسممت مياهه الإقصاء والمحسوبية. لن يتمكن الموريتانيون ورئيسهم المستقبلي من الاستمتاع بسعادة التناوب إلا من خلال إدارة هذا الخطر الكبير.